في سياق احتكارها لتأريخ العالم، سعت الأدبيات الأوروبية إلى تكريس أثينا باعتبارها منبع المعرفة الإنسانية، في تغافلٍ عن جذورها العراقية والفرعونية التي تتزايد الدراسات حولها مؤخراً، وتهميش لمساهمات كبرى للعنصرين السوري والمصري في الفلسفة والعلوم الإغريقية، والتي يتمّ تقديمها بطابع عقلاني مبالغ فيه أيضاً.
لا تغيب هذه الخلاصات عن كتاب "بلاد الرافدين.. أرض الأسطورة والحضارة" الذي صدر حديثاً للباحث والسياسي السوري عبد الباسط سيدا عن "دار خطوط وظلال"، حيث تتبّع تأثير التراث السومري في تأسيس الوعي الأسطوري، والفلسفي، والعلمي، في الشرق القديم.
يرجّح الكتاب استفادة اليونانيين من التراث الفلكي البابلي
يلفت المؤلّف إلى أن أيّة مقارنة بين المجتمعين السومري واليوناني تتمحور حول مستوى جهودهما التأريخية، لا ينبغي لها أن تظلّ بمعزل عن عامل الزمن، حيث سبقت الحضارة السومرية نظيرتها اليونانية بما يزيد عن الألفي عام، موضحاً نقطة أساسية تتعلّق بالحضارة الكتابية في بدايات نشوئها، حيث أخذ النشاط الاقتصادي القسط الأكبر من اهتمام الناس، بدليل أنه منذ عام 2500 قبل الميلاد دخل الفعل إلى الخط المسماري الذي لم يشكّل قبل ذلك لغة متكاملة لاكتفائه بجمل اسمية، لتتنقل الكتابة إلى تدوين الحوادث ومآثر الملوك.
وقد حظيت مهنة الكتابة بمكانة مرموقة لدى السومريين، بحسب الكتاب، في إشارة إلى تطوّر النظام التعليمي سواء في ظهور عدد من المدارس الكبيرة التي كانت تعدّ الكتبة، مع تعاظم أهمية توثيق المبادلات التجارية، والتكثيف الرمزي للأختام التي امتلكها كلّ فرد لتعكس نسقاً ثقافياً وفكرياً قام عليه المجتمع، إلى جانب التقويم الذي كان يضبط عليه الناس مواسمهم الزراعية.
يقف سيدا أيضاً عند توظيف الأسطورة على المستويين الشعبي والرسمي، كما أنها استُخدمت سياسياً، بالإضافة إلى سعيها لتقديم صورة عامة عن بدايات الظواهر وأصول الأشياء، مبيّناً ذلك بنموذجين اثنين أولهما أسطورة "إنانا" التي تمثّل حالة النزاع التاريخية بين الفلاح والراعي، ولكنها تختلف عمّا قدّمته التوراة في أن تفضيل إنانا الزواج من الإله الفلاح على الإله الراعي، سيكون حلّه ودياً وينعكس في القانون السومري الذي يعتمد مبدأ التغريم المادي، وليس دموياً مثلما حدث مع قابيل وهابيل، لتأتي الشرائع العبرية لتؤكد مبدأ القصاص.
أما أسطورة "إنانا وإنكي"، فيوضّح الكتاب كيف قامت إنانا بنقل مركز الحضارة من أريدو إلى أوروك والتي تتضمّن أكثر من عنصر، في مقدّمتها السيادة والربوبية والتاج المقدس وعرش الملك، ووظائف الكهنة والقضاة، لكنها لا تستثني عناصر مثل الكتابة والموسيقى والعمارة والحكمة بل وحتى الكذب والزور، ليخلص إلى أن تطلعات المجتمع الواقعية كانت تخرق بنية الأسطورة، وتسهم في تحديد مسار أحداثها، وصياغة توجهاتها العامة.
يقارب مفهوم المعبد السومري ببعديه الاقتصادي والاجتماعي
يقارب سيدا مفهوم المعبد في الحضارة السومرية، والذي لم يكن مركزاً دينياً فحسب، بل كان اقتصادياً تربوياً يعجّ بالحركة، وكان يشكّل مع القصر وجهين لمؤسسة سلطوية واحدة رغم تنافر مصالحهما أحياناً، حيث أُسندت إليه مهام تعليم الأطفال، وتسجيل العقود، ومراقبة الأفلاك، والإشراف على الاحتفالات العامة، وإثبات شرعية الحاكم، ومعالجة المرضى، وإجراء طقوس دفن الموتى، إلى ما هنالك من وظائف حيوية، جعلت من المعبد المركز الذي تمحورت عليه الحياة العامة في الحرب والسلم.
بين السحر والعلم، يفصّل الكتاب المعرفة المتقدّمة التي وصلها البابليون؛ مثل حلّ المسائل التي تحتوي معادلات الدرجة الثانية والثالثة، وقياس متوازيات السطوح والأسطوانة والمخروط والهرم، وإجراء عمليات جراحية معقدة في العين، وإطلاق الأسماء على معظم الكواكب المعروفة حالياً، وتحديد مواقع هذه الأخيرة بالنسبة إلى الأبراج المختلفة، وأوقات كسوف الشمس وخسوف القمر، وحساب السنة الشمسية التي كانت تنقص أربع دقائق ونصف الثانية.
لا يغفل المؤلّف ترجيحات الباحثين بأن الفيلسوف اليوناني طاليس كان قد اطلع على التراث الفلكي البابلي، واستطاع بفضل ذلك التنبؤ بكسوف الشمس الذي حصل في 25 أيار/ مايو سنة 585 ق. م، كما أن الكتّاب اليونانيين ذُكروا في أسماء بعض الفلكين البابليين، ومن هؤلاء كيدنو أو كيديناس ونابوريانوس.
وفي دراسته للوعي الأسطوري في بلاد الرافدين، يرى أنه تبنّى تصوراً عاماً يخصّ القيم، خلاصته أن القدر الإلهي مطلق، إلا أن الإلهي لم يتمكن على الدوام من إقناع عقل الإنسان الرافدي، الذي كان يتحسس الظلم جراء التباينات الاجتماعية الحادة، ليصبح القدر نفسه موضوعاً للتبرّم والتشكيك، من قبل القوى التي وجدت أنه لا يكون إلا على حسابها.
يخلص سيدا إلى أن الفعل الفلسفي النظري لم يكن له أن ينجز ما أنجزه، أو يتوصل إلى ما توصل إليه، ما لم يستند إلى تجربة إنسانية عميقة الجذور، يحتل الوعي الأسطوري حيزاً هاماً فيها، في إشارة إلى الدور العظيم الذي لعبته الحكمة الرافدية.