"السِّفر" لـ فادي شاهين: تعليم العربية زمن التوجّس الفرنسي

10 نوفمبر 2020
جدارية في مونتريال الكندية لـ كريم الجباري
+ الخط -

منذ ظهور الميثاق الأوروبيّ لتدريس اللغات، ما فتئَ المشتَغلون في قطاع تعليم الضاد للناطقين بغيرها يُواصلون الجهودَ حتى يضيّقوا الشقّة بين هذه اللغة واقتضاءات هذا الميثاق، الذي يُركّز على الكفاءات، بَدلَ المعارف ونظرِيّ المعلومات. ومن بين آخِر هذه الجهود، كتابُ فادي شاهين: "السِّفْر I"، الذي صدر مُؤَخّرًا عن دار لارماتان الفرنسية، في مائتي صفحة تزدان بالألوان والصّور والمربّعات التوضيحيّة، كما رافَقَها تسجيلٌ صوتيٌّ، مما يجعلها أكثر جاذبيةً ويُيسر استعمالَها أداةً بيداغوجية عمليَّة لمن يروم دراسة لغتِنا بذاته، أيْ: بشكلٍ عصاميّ، ولاسيما في أوساط فئات الشبّان والكُهول في البلدان الفرنكفونية. 

يركّز هذا المنهج الدراسي على اكتساب مَهارات التواصل باللغة العربية الوُسطى، التي تُباين كلاًّ من السجلّ الفصيح والمَحكي، لكن من دون أن تَقطع مع أيٍّ منهما. ويتوجّه هذا العمل إلى الطلّاب المبتدئين تمامًا، الذين لا يملكون أدنى فكرةٍ عن هذه اللغة وحروفها، لا نُطقًا ولا رسمًا. ولذلكَ خَصّص الجزءَ الأول منه، والذي عَنْونه: "الخُطوات الأولى"، كأنما الضّاد دربٌ وعرٌ طويل، لإتقان حروف الألفباء مشافهةً وكتابةً.

وفي هذا القسم التمهيديّ، أوضح شاهين أنَّ طبيعة هذه "الخطوات الأولى" تهدف إلى التمكّن من رَسم الحروف ونُطقها، فضلاً عن امتلاك بَعض الكلمات السّهلة وحفظ أجزاءَ من الحوارات والعبارات عن ظهر قلبٍ في محاولة لخلق شعورٍ، لدى الطالب المبتدئ، بقدرته على تقديم نفسه بشكل موجز منذ الدرس الأول. وقد ألحق بهذا القسم معجمًا بسيطًا، يتضمن كل المفردات التي تُطرّق إليها في هذا القسم الأول مع ترجمتها إلى الفرنسيّة. 

وبالنظر إلى قواعد الإطار الأوروبي لتدريس اللغات، فإنَّ هذا التمهيد لا يندرج ضمن أي مستوى من مستوياته الستّة، وإنّما هو توطئة ضروريّة من أجل النفاذ إلى المستوى A1 والذي يقتضي بعدُ استخدامَ العديد من الجمل الجاهزة، ضمن كفاءات التعبير عن الذات، في سياقات الحوار الفعليّة.

وأما القسم الثاني فتوالت فيه فُصول المنهج السبعة مركزةً على اكتساب سائر المهارات التعبيريّة مثل الحديث عن الطقس والتسوّق ووصف الأمراض لدى الطّبيب وغيرها من مَواقف "المحافظة على البقاء"، كما جاء في نصّ الميثاق، وهي سلسلة من الحوارات والنصوص الهادفة إلى تمكين المتعلم من إلقاء التحيّة بمختلف صيغها، والحديث عن الذات وعن الغير، والعطلة والأصدقاء والعمل، في نطاق حقل محدودٍ من الموضوعات. وكلّ وَحدةٍ من هذه الوحدات السبع تنقسم إلى نصٍّ رئيس، ثمّ إلى مفردات، تعابير، قواعد مبسطة وتُختم بتمارين تطبيقيّة تعين على تمثّل تلك القواعد وتثبيتها كآلياتٍ ذهنيّة تلقائيّة.

ولا شكَّ أنَّ الرهان البيداغوجي الذي يَطرحه هذا الكتاب، وغَيره مما أُلّفَ في أوروبّا في السَّنَوات القليلة الماضية، هو التوفيق بين قواعد اللغة الفصحى، والتي قلّما تُستخدم في التواصل اليومي، وبين ضرورة امتلاك ناصية كفاءات التواصل الحقيقيّة، دون اصطناعٍ أو تكلفٍ. ذلك أنَّ ما يَشتكي منه طلبةُ العربيّة، من الناطقين بغيرها في أوروبّا، هو بُعد الشقَّة بين الفصيح النظري واللهجات العاميّة. وقد يُضيفون أنَّ ما يَحفظونه من هاتيك القواعد "لا يصلح لشيءٍ عدا تأمل جُملٍ وتراكيبَ، مَفصولةٍ عن الواقع، حيث نَعجز عن الفهم وعن التعبير آناء مخالَطتنا العَرب في بلدانهم". 

السفر

ولذلك جَهد فادي شاهين في تَقليص هذه الشقّة عبر التركيز على مُفردات العربيّة الوسطى والتي فَرَضت ذاتها على الاستخدام اليومي. وتجدر الملاحظة هنا أنَّ اختياراته  للرصيد المعجمي، المتألف من زهاء ثلاثمئة مُفردةٍ وعبارة، قد خَضع إلى "منهجيّة تجريبية صارمة". فعلى امتداد ثلاثِ سنوات كاملة، قام شاهين بتدوين كلمات المحاورة، المأخوذة من الحياة اليومية، على شاشة حاسوبٍ، داخل الفصل مع المُتعلّمين، حتى ترسخ في ذاكرتهم البصريّة، بعد أن كان قد طَلبَ منهم تصوّر الكلمات-الأدوات التي يحتاجونها ضمن التواصل الأولي التلقائي. واستمرّ العمل بهذه الطريقة طيلة حصصٍ طويلة حتى تمخّضت هذه القوائم المعجميّة، التي اتضح أنَّها الأكثر تردّدًا والأقرب إلى "المهام التواصلية المرسومة في مستوى A1"، حسب الميثاق. 

وبالاعتماد عليها تحديدًا، تمّت صياغة حواراتِ الكتاب مع إضافة بعض المفردات من السجلّ الدّارج، حتى تكون هذه الجمل الحواريّة أقربَ إلى حياتنا في المجتمعات الراهنة وأبعدَ عن التصنّع أثناء نشاط المُحادثة. هذا، وقد عدَّ الكاتبُ إدماجَه لبعض الكلمات المَحكيَّة "مغامرة كُبرى وحقلاً مليئاً بالمسؤولية"، لأنّه يَطرح، من خلال هذه الخطوة البيداغوجية، قضيّة السجل اللغوي الذي ينبغي أن يُدَرَّس اليومَ للموظفين والصحافيّين وحتى للطلاب الذين يدرسون الضاد، لا من أجل التعرّف إلى نصوصها الأدبية الكلاسيكيّة، ولا من أجل مطالعة أعمدة الصحف الإخبارية والمختصَّة، وإنّما من أجل تبادل بعض الجُمل أثناء عملهم في العالم العربي. 

ويتساءل شاهين: "هل نَصلُ في يومٍ من الأيام إلى فصل تَعلّم العربية القديمة عن العربية المعاصرة وفتح قسمين مختلفيْن لهما في الجامعات؟"، تساؤله مشروعٌ نظرًا إلى حَجم المسافة الفاصلة بين العربية المكتوبة واللهجات المحكية، ولا سيما في "مهام" التّواصل الحقيقية التي نمارسها، يوميّا وبشكلٍ عفويٍّ، في مجتمعاتنا. فما من أحدٍ منا يتكلم الفصحى مع أهل الحيّ ولا مع خَبّازه أو بقّاله، وإلاَّ عدَّ ذلك ضربًا من التعالي. 

وأما قواعد النّحو فقد حَظيت هي الأخرى باهتمام كبيرٍ، في هذا المستوى، ووقَع التركيز على تملك الضّمائر المنفصلة وتصريف الأفعال في المضارع المرفوع، إلى جانب شَذرات ممَّا يُحتاج إليه في هذه المرحلة. ولا يخفى أنَّ تدريس القواعد من أعقد المسائل التي ينبغي أنْ تحظى بِفضل تَفكيرٍ وتَدبيرٍ، حتى نصل إلى المقدار المطلوب منها، دون أن نلحق الضيم لا بالضّاد في معياريّتها ولا يُرهقَ مُتعلموها بكثرة الاستثناءات وَوَعر التصريفات.

"كتاب السِّفر" مساهمة مرحَّبٌ بها في فرنسا اليوم وسط أجوائها المشحونة خوفًا من كلّ ما هو عربي ورَبْطه بالتطرّف. وهو وثيقة جديدة مفيدة، تنضاف إلى رصيد الوثائق والمستندات البيداغوجيّة الأخرى الهادفة إلى تَحديث تدريس العربية المعاصرة ووَصلها بمشاغل الناس والسير بها نحو دوائر المُحاورة، حتّى لا تظل لغتنا، وفي هذه الدوائر ذاتها، رهينةً للاقتراض الأجنبي أو للصيغ الموغلة في مَحليتها. خطوة أخرى نحو العربية الوسطى. والمأمول أن تَتبَعها أجزاء لاحقة تغطّي المستويات الخمسة المتبقية وتنزع عن الضاد بعض ما لَحق بها، جرّاء مناصريها ومناوئيها، من هالات التقديس والترهيب. 


بطاقة 
ولد فادي شاهين بدمشق سنة 1976، درَّس اللغة العربيَّة وآدابَها في جامعة حلب ودمشق، حصل على الدكتوراه في علم اللغة الاجتماعي من جامعة السوربون سنة 2014، ويَعمل الآن مدرّسًا في جامعة باريس الثانية ومعهد العلوم السياسية بباريس. 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون