ربما تكون رواية "أقرب" للكولومبي ماريو أنخل كينتيرو (كتبها بالإنكليزية مباشرة وترجمها إلى العربية أحمد. م. أحمد وصدرت حديثاً عن "دار الرافدين") هي الأحدث في سلسلة روايات أميركا اللاتينية الغرائبية، إلا أنها تواصل التقليد ذاته الذي شقّت الطريق إليه روايات الرائد المكسيكي خوان رولفو (1917 - 1986)، ومَن تتبّع خطاه من أمثال غابرييل ماركيز وخوليو كورتاثر وأليخو كاربنتير.. وآخرين.
هذا التقليد هو ما دُعي تارةً بـ الواقعية السحرية، والغرائبية تارةً أُخرى، التقليد القائم على المزج بين الواقعي والمتخيّل، وصولاً إلى معنى يقع ما بعد المعنى إذا استعرنا التصنيف البلاغي الممتد من العربي عبد القاهر الجرجاني وصولاً إلى الناقد الإنكليزي إيفور رتشاردز (1893 - 1979) وزميله الألسني تشارلس أوكدن. الشعرية هي ما يلخّص هذا الشتات من التسميات، وأفضل من عبّر عنها بكلمات مركّزة هو التشيكي ميلان كونديرا، حين رأى على سبيل المثال أنّ رواية "مائة عام من العزلة" لماركيز "شعرٌ خالص"، ليس بالمعنى الغنائي بالطبع، بل بمعنى أنَّ تناوُله للعالم الموضوعي هو تناول واقعي وسحري وغير معقول في وقت واحد معاً.
تبدأ هذه الرواية القصيرة بتقديم لكاتبها الشاعر يقول فيها للقارئ: "ما تقرأه هنا هو جزءٌ من رحلة يقوم بها أخ (إيدي) وأخت (سور) وزوج الأخت (تاش) لزيارة قريب لهم على وشك الموت يُدعى (بيتن)، كتب لهم أنه يجب أن يتحدّث إلى الأخ قبل أن يموت". ويضيف الكاتب أن أحداث الرواية تجري بالطريقة نفسها التي يعيشون فيها حياتهم، أي وهم يستكشفون أحاسيسهم وغرائزهم". ثم يضع بين يدي القارئ أول خيط يهديه في ظلمات الغابة والمستنقعات التي سيخوضون غمارها في طريقهم إلى قريبهم: يحمل إيدي الأخُ، عبء وعيٍ بذاته يُضاف إليه تمالكاً للنفس، يجعله يفكر أن هذا الوعي مع مرور الزمن يغيّره من حيوان إلى مسخ" (يستخدم المترجم كلمة "وحش" غير الدقيقة دلالةً بدلاً من ذلك).
روايةٌ عن رجُل يعيش أيامه الأخيرة بين المسوخ
وسيضع الكاتب القارئَ أمام "حيوانات" أُخرى و"مسوخ"، بل وحتى قاتل للمسوخ، متّبعاً بذلك أسلوب القرون الوسطى الأوروبية في استخدامها الرمزي للحيوانات. لماذا؟ لأنه يرى كما يقول في ختام تقديمه: "تماثلاً تامّاً بين معتقدات ما يُدعى العالم الثالث اليوم، أو كولومبيا على الأقل، وبين معتقدات أوروبا في العصور الوسطى، لجهة أن المواجهة بين الوعي بالذات وغموض العنف الذي تنزله الطبيعة أو يرتكبه البشر الآخرون، تخلق ردود أفعال متطرّفة إلى حد بالغ تكاد تكون خرافية".
ويُلقي الاستهلال المعنون "وصية العم بيتن" الضوء على ما سيجده المسافرون الثلاثة أمامهم في القرية التي يصلون إليها؛ إبادة سكّانها على يد "قاتل مسوخ" يعمل على اجتثاث الظلمة من أجسادهم، أي على قتلهم تحت حجّة إنقاذهم. تقول الوصية: ".. حيوانات.. كلّنا حيوانات.. نؤدّي ما تمليه حوافزُنا وأهواؤنا. إننا مُستنفَدون في سبيل ما نحتاجه في كلّ لحظةٍ نعيشُها، وسنفعل أي شيء للعالم، أو لبعضنا، أو لأنفسنا كي نفوز به. لدينا المشاعر الجيّاشة، لكننا لسنا مرتبكين. نحن نكذب ونقتُل ونستبدّ. نحن نأكل، ونترك الآخرين فريسةَ الموت. هذا ما يُسمّى بالحياة. عالمنا حافل بالسحر والشعوذات.. وحين نعي أَثَرَتَنا، أو وحشيتنا، نُدرك أننا عالقون في مستنقعٍ أبديٍّ ليس إلى العَودِ منه سبيل. وها نحن الآن نبدأ بلعن أنفسنا لا لأن اللعن أُمْليَ علينا وإنما لأننا بغيضون. تصبح ضآلةُ أرواحِنا متناهيةُ الصّغر مسألةَ فِطنة. وتبدّل وجهة النظر هذا يبدو بجلاء للعيان وسطَ الجماعة. وهذا الأمرُ على وجه الخصوص ناشزٌ لا ينحصر في أنّ المرء الذي يكابدُ هذا التبدّلَ إنما يبدِّلُ من سلوكهِ أو سلوكها أو يصبحُ أقلَّ تعطّشاً للدم، أو أَثَرَةً، أو توحّشاً. لا، بل إن التبدّل الوحيد في أن يكون متنبِّهاً بقوة إلى أن الفردَ هو تلك الأشياء مجتمعةً. إنها مسألة وقت ريثما تعي الجماعةُ أن هذا التبدلَ قد حدَثَ لدى واحدٍ من أعضائها، رغم أن البعض أكثر مهارةً من غيرهم في إخفائه. عند هذا المفصل، يعبرُ الشخصُ من كينونةِ الحيوان بكل ما ينطوي عليه من براءة إلى كينونة المسخ. هؤلاء المسوخ منبوذون، يترحّلون عادةً من قرية إلى أُخرى، أو يبيتون في الأماكن النائية العصيّة على الوصول".
ويكشف العم عن أن ما حوله هم "مسوخ" فيقول: "كواحد يعيش أيامه الأخيرة بين هؤلاء، فإن ما يؤنسني على وجه الخصوص هو وافدٌ حديث العهد على عالمنا الثنائي المؤلَّف من الحيوانات والمسوخ. إنه بطل اغتسلَ بالصلاحِ وحسْن الطويّة، ظهَرَ كي يهدّئ من روع جماعاتنا. وهؤلاء الأبطال معروفون كقَتَلةِ مسوخ، وما يضمرونه في دخائلهم من إشعاع الطيبة والنقاء قد حلَّ ليكسح إلى الأبد الظلمةَ والريبة اللتين استثارتهما المسوخ فيما بيننا. سيعثرون على كلٍّ واحد منهم، وهم متوارون في عرائنهم، وبجرجرتهم إلى الضوء، سيُجهزون عليهم. سيخدمون الجماعةَ بقتل الوعي. إن صلاحَ وشموخ أنفسهم لا تحدّه حدود، ومع ذلك لا يزالون تحت الخطرِ الجدّي في أن يتحوّلوا إلى ما يصيدون"، أي أن يتحوّلوا إلى مسوخ أيضاً.
توظيف رمزيٌ للحيوانات على طريقة القرون الوسطى الأوروبية
بعد ذلك، تنقسم رواية الرحلة بوساطة عبّارة ثم خوضاً في المياه وطين المستنقعات في ظلمات الغابة إلى خمسة عناوين؛ الأول "جرس خشبي" وترويه الأخت، والثاني "ألف سوسنة" ويرويه الأخ إيدي، والثالث "نافذة مظلمة" ويرويه تاش، أما الرابع "عصفور أعمى" والخامس "الريح المجدولة" فيرويهما الكاتب. ومع وصول المسافرين إلى قرية العم التي يبدو أن قاتل المسوخ أحرق سكانها في منازلهم، ليستخرج الظلمة من دواخلهم ويُطهّرهم، يشهدونه في لحظاته الأخيرة وهو يوصيهم بالقول: "ذاك الذي سيأتي لقتلكم هو نقطة عمياء في دواخلنا".
ثم تأتي الواقعة الأغرب من كل ما سبق، حين يحول والدا إيدي وسور نفسيهما من "مسخين" إلى "حيوانين"، إلا أن ما رآه الذين اقتربوا منهما مجرّد زوجَين مسنَّين يقومان بأعمالهما اليومية على إيقاع الحياة، ولم يتمكنوا من رؤية أنهما فهد ونمرة عجوزان.
في باحة شخص آخر
Mario Angel Quintero شاعر وروائي ومسرحي وتشكيلي كولومبي، وُلد عام 1964 في سان فرانسيسكو بكاليفونيا الأميركية. درس الأدب في جامعتها، حيث قضى سنواته الثلاثين الأولى. نشر روايات وقصصاً وشعراً ومقالات بالإنكليزية تحت اسم جورج ماريو أنخل كينتيرو. يعيش منذ 1995 في كولومبيا؛ حيث نشر عدة مجموعات شعرية بالإسبانية من بينها: "خريطة لما هو واضح" (1996)، و"مسطرة" (1998)، و"هبوط الروح في طريقها إلى المطهر" (2009)، وكتاب مسرحيات بعنوان "كيف تموت في باحة بيت شخص آخر" (2009). له أعمال فنية بصرية ومسرحية وموسيقية.