"أدونيادا"... الشاعرُ أسطورةً

28 أكتوبر 2022
أدونيس خلال معرض لأعماله الفنّية في باريس، 2015 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- أدونيس، شاعر سوري وُلد في 1930، نشأ في بيئة تقدر الشعر والثقافة، وبدأ مسيرته الشعرية بقصيدة في سن الثالثة عشرة. تجربته الشعرية تميزت بالمصادفات الفريدة وتبني رؤية تقوم على القطيعة مع التقاليد الشعرية العربية.
- تبنى أدونيس رؤية شعرية جديدة تدعو لخلق تاريخ جديد للشعر العربي، مؤكدًا على الابتعاد عن التقليد والانفتاح على الإبداع.
- في "أدونيادا"، يستكشف أدونيس معنى الخلق الإبداعي عبر رحلة في عشرين فصلاً، معتبرًا الشعر موسيقى فطرية وسؤالًا للذات والعالم، ويتأمل في مفاهيم الوجود، المنفى، والجرح.

"في أساطير الأولين أنَّ أدونيس الذي تألّه بالحبّ، أو الذي تولَّه فتألّه، خُلِق في الشعر ومنه، وُلد مع الضّوء والهواء. مع الماءِ والنبات والعشب والزهر. والبقية من أشياء الخالق. وُلد مُرّاً، لا من المرارة، بل من شجرة تبكي ويسيل دمعُها مّراً: صمغاً يُقال إنه دواء. حين يُذكر، يمرُّ في ظلالِ اسمه الطِيبُ والتابل والبخُّور والمسك، وكلُّ ذي أريج. وحين يُذكَر، تُذكَر المِرّة - العقل، الأصالة والإحكام والقوّة. ويُذكَر ذلك الخلط الغامض بين أخلاط الجسم، عنيتُ المزاج. لهذا يُقال في ذكره، ويُكرَّر: ما أجمل البكاء! ما أحنَّ الدمع! هكذا اهتزّت شجرةُ البخور، وتأوهّت، وصرخت. انفتح جذعها فرجاً كونياً، وخرج الإنسان - الإله الذي سُمِّي أدونيس". 

لكن، عزيزي القارئ، أدونيس، بطل هذه الأسطورة المعاصرة التي تحمل عنوان "أدونيادا" (دار الساقي، 2022)، وُلد في قرية فلّاحية فقيرة على حافة العالم، في سورية، عام 1930. لم يعرف المدرسة والكهرباء أو السيارة حتى سنّ الثالثة عشرة. كان والده قارئاً للتراث الثقافي العربي. وجوهرُ الثقافة العربية الشِّعر. راح الأبُ يعلِّم ابنه أن يكتب ويقرأ في الطبيعة، تحت أغصان الأشجار، أعمالَ الشعراء القدامى من فترة ما قبل الإسلام حتى أواخر العصر الإسلامي. في هذا الجوّ بدأ الطفل بشكل طبيعيٍّ وعفوي كتابة الشعر. 

في أحد الأيّام من عام 1943، عندما حصلت سورية على استقلالها، قرّر رئيس الجمهورية السوريّة الأولى آنذاك، شكري القوّتلي، زيارة المحافظات السورية ليتعرَّف على البلاد. فجأة تخطر للطفل فكرة أن يكتب قصيدة يرحّب فيها بالرئيس، ويحتفي بالاستقلال. يحلمُ الصبيُّ الذي كان عمره آنذاك ثلاثة عشر عاماً، أو يتخيّلُ أنّ القصيدة ستُعجب الرئيس. وأن هذا سيطلب أن يرى الطفل ويسأله: "بماذا نستطيع أن نساعدك؟"، فيجيب الطفل: "أريد الذهاب إلى المدرسة". هكذا يخلق الطفل هذا الحوار في مخيِّلته. وفعلاً يكتب القصيدة. في يوم الزيارة، وبعد كثير من الصعوبات والعقبات، يتمكّن الطفل بفعل مصادفةٍ غريبةٍ من الوصول إلى الرئيس. يقرأ أمامه القصيدة، فتعجبه. يطلب الرئيس رؤية الطفل. يسأله: "بماذا نستطيع أن نساعدك، يا بني؟". "أريد الذهاب إلى المدرسة"، يجيبه. فيقول له الرئيس: "سوف تذهب إلى المدرسة".

هكذا وُلد علي أحمد سعيد إسبر من جديد، في الشعر ومنه.

كيف يمكن أن يصيرَ الحلمُ حقيقةً في هذا العالم المستحيل؟ أليست هذه القصّة أشبه بالحلم؟ بالأسطورة؟ هكذا قامت حياة الشاعر أدونيس على سلسلة من المصادفات الغريبة: القصيدة التي أدخلته المدرسة؛ الاسم الذي اختاره وصار ينشر به في الصحف والمجلّات؛ عبوره الحدود السورية إلى لبنان قبل خمس دقائق فقط من إعلان النفير العام في سورية وإغلاق البلاد بشكلٍ كامل. لا شكَّ أنَّ هذه المصادفات والأحداث أثَّرت، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، في الشاعر الذي تبدو حياته وكأنها سلسلة من البدايات المستمرّة. قفزةٌ تلو الأخرى. وليست هذه القفزات سوى نوع من القطيعة مع البيئة السياسيّة والاجتماعية والثقافية التي عاش فيها.

ولعلّ هذه المصادفات خلقت عنده رؤية شعرية خاصَّة تقوم، جوهريّاً، على أساس أنَّ الشعر نوعٌ من القطيعة تحدث داخل اللغة الشعرية نفسها. وأنَّ العالم لا يتقدّم إلّا في سلسلة من الخروقات والقطائع مع كلّ شيء يُستهلك. وبالتالي خلقُ تاريخٍ جديد. إنَّ كتابة الشعر في ظلّ كبار الشعراء العرب الكلاسيكيين، مثل المتنبّي وأبي تمام وأبي نواس وآخرين غيرهم ــ وهم شعراء يستحضرهم أدونيس في "أدونيادا" ويجول معهم في سفره حول العالم، محاوراً ومستمعاً ــ لن تُسهم في شيء على الإطلاق. ستكون شكلاً آخر من أشكال التقليد. هكذا خلق أدونيس قضيّته: إمّا أن يبدأ تاريخاً جديداً للشعر العربي، تماماً كما خلق لنفسه تاريخَ حياته الخاص، أو لا معنى لكتابة الشعر على الإطلاق. 

لا بدَّ من الأسطورة لفهم مفهوم الجرح الذي يطوّره أدونيس

كي يخلق تاريخاً جديداً للشعر العربي، كان على أدونيس أن ينفصلَ، ليس عن اللغة الشعرية الموروثة فحسب، بل عن البيئة الثقافية التي تتحرُّك فيها تلك اللغة. هكذا كان لا بدَّ للشاعر من زلزلة الركن الأساسي للثقافة العربية، الدِّين، مُحدثاً قطيعة مع الثقافة الدينية ولغتها السائدة. بهذه الطريقة خلق الشاعر عالماً شعرياً غنائياً خاصّاً عاش فيه بمخيّلته وأفكاره وحياته اليومية. ضمن هذا السياق من الخروقات والقطائع تصبح كتابة الشعر نوعاً من إعادة كتابة تاريخ الشعر العربي. وبالطريقة نفسها التي صاغت مصادفات الحياة تاريخاً جديداً لأدونيس، سيقوم مشروع أدونيس الشعري والفكري على خلق تاريخ جديد للشعر داخل التاريخ العربي.

غير أنّ نقل التراث العربي الشعري واللغوي والديني والتاريخي، من إطاره الأكاديمي والمدرسي والتقليدي، يتطلّب إعادة قراءته وإعطاءه تفسيراً جديداً ووضعه في سياق حديث ومعاصر. من هنا سيكون كتاب "الثابت والمتحوّل. بحث في الإبداع والاتباع عند العرب"، أساساً لفهم جديدٍ للثقافة العربية، وإعادة قراءتها بشكل جديد ومبتكر. لن يكتفي أدونيس بذلك. بل إنّه سيقرأ التراث الشعري العربي كلَّه ويجمعه في أربعة مجلّدات ويسميّه "ديوان الشعر العربي". وفي مقدمة عميقة وموسَّعة يشرح فيها القيمة الفنية الخالصة لاختياره الشعري، الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويتخطّى الاعتبارات التاريخية والاجتماعية، يؤكد أنَّ الشعر يكتسب قيمته من الداخل، من ثراء التجربة والتعبير، وليس من الخارج. لا شك في أنَّ هذا المتحف الشعري، الذي اختاره أدونيس، أسَّس لبيئة شعرية تحوّلية ساعدت القارئ العربي على إعادة النظر في الشعر كنشاط إبداعيِّ أساسيٍّ في الحياة العربية. أخيراً، وفي محاولة أخرى لبناء سياق إبداعي جديد بين الماضي والحاضر، سيقرأ أدونيس النثر العربي المكتوب ويختار منه أربعة مجلدات تحت عنوان "ديوان النثر العربي". ليكمل بذلك مشروعه الإبداعي: خلقُ تاريخ جديد للشعر العربي داخل التاريخ نفسه.

يأتي كتاب "أدونيادا" ضمن هذا المشروع المتكامل الذي يشكّل وحدةً عضويّة، كسيرةٍ ذاتية شعريّة وفكريّة، يقوم فيها الشاعر برحلة غير مسبوقة تتكشّف في عشرين فصلاً. ترسم هذه الفصول مساراً ميتافيزيقياً يُسائل شعريّاً، في الشرق وفي الغرب، عن معنى الخلق الإبداعي. في نهاية المطاف، يكفل الإبداع، بأشكاله وتعبيراته كاملةً، للإنسان ديمومة هُويّته. فالمبدعون يعيشون فيما وراء التاريخ، معاً، في غابة واحدةٍ منذ بداية الشعر. والكتابة الشعرية، جوهرياً، هي سؤال الذات والعالم في آن معاً. لذا سيلاحظ القارئ في "أدونيادا" شيئاً يتجاوز الشاعر، شيئاً ينبع من أعماقه. إنها ذاتُه. الشيء الحقيقي المجهول فيه. وهذه الأدونيادا رحلة إلى أعماق التاريخ. تاريخ الإنسان والشاعر في هذا العالم الذي صار سوقاً كبيرةً. فقد "جُنَّتِ السّوقُ"، كما يشير الشاعر، في الفصل الرابع عشر، الذي يكشف عن فضاء شرقيّ مألوف. ينظر الشاعر إليه بأنّه مكان تغرق فيه فرديّة الإنسان. يجسّد السوق بُعداً تجارياً عالمياً وشائعاً. إنّه اندماج كلُّ شيء. وهو يعارض الفردية. أن نلغي الفردية ونضع مكانها مفهوم الجماعة أو الأمّة واحدة من أكبر المشكلات المعاصرة التي نواجهها في هذا العالم.

يقدّم أدونيس لقرّائه في "أدونيادا" نصوصاً كتبها خلال السنوات العشر الماضية، في أثناء تجواله في بيروت وصقلية ويريفان وأفسس وشنغهاي ولندن ونيويورك وباريس ومدن أخرى من العالم. كأنّه يخبرنا أنّ السفر يتيح لنا رؤية العالم بطريقة جديدة. يسمح لنا بتغيير العلاقات بين الأشياء والكلمات. لكن، هذه الأماكن الخارجية الموجودة في "أدونيادا" ليست إلا ذريعة لرؤية الفضاء الداخلي، وتأكيد فرديّة الشاعر. ذلك أن رؤية المرئي شرطٌ أساسي لرؤية اللامرئي.

غلاف أدونيادا ـ القسم الثقافي

ولكن ماذا يوجد في هذا الفضاء الداخلي بعد هذا التشرّد ملْء المدائن؟ بعد السنين التي أرهقت كاهلَيْ أدونيس، هل استطاع أخيراً أن يعثر على الطريق الصحيح؟ وهل تمكّن من العودة إلى الأصل، إلى القرية التي جاء منها؟ بودلير، ريلكه، رامبو، هوميروس، دانتي، نيتشه، أفلاطون، المعري، المتنبي، أبو تمام، أبو نواس والعديد من الشعراء والمفكّرين الذين يستحضرهم الشاعر في أثناء تجواله، يؤكّدون له أنّ الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة هي الموت والمنفى. لا سيما في هذا العالم - القبر الذي دمّرته السياسة والاقتصاد والسماء والآلة. نعم الآلة. هذا الإله الجديد الذي ينافس إله السماوات. غير أن المنفى الذي يشير إليه أدونيس ليس منفى المكان الخارجي، إنما المنفى الذي يجتاح أعماق كلّ مبدع. 

وبالفعل، يكمن سحر "أدونيادا" في حقيقة أنّها، مثل أي عمل إبداعي عظيم، تخبرنا عن أنفسنا. لذلك سيلاحظ القارئ أن أدونيس يسير في مدن العالم، متعباً ومثقلاً من مرارة المنفى التي تغمر أعماقه. وهذا شعور يجتاح جميع المبدعين، مهما اختلفت لغاتهم، لا سيّما عندما يشعر المبدع أن ثمة فجوة كبيرة بين عمله الإبداعي، ما يريد حقاً أن يبدعه، والواقع، أو ما عبّر عنه فعلاً. هذا هو المنفى الحقيقي، منفى الكينونة الداخلي الذي يشير إليه أدونيس في "أدونيادا". حينما يشعر المرء في نهاية حياته أنه لم يحقّق شيئاً على الإطلاق، أنّه لم يكتب ما حلم به... بهذا الشكل يصبح المنفى، بمعناه السياسي والمكاني، سطحياً وبسيطاً، أمام هذا المنفى الكينوني الذي يجترح أعماق كل مبدع. 

من هذا المنفى الداخلي العاصف تتفتّح الجروح التي تُمزّق جسد الشاعر وتثقل روحه. وليست المساحات البيضاء ــ الفراغات ــ التي يتركها أدونيس في القصيدة إلّا مكاناً للراحة. حيث يستطيع الشاعر أن يتنفّس، ويتأمّل، ويغنّي، ويميّز إيقاع الأبيات والصمت الذي يتخلّلها. فيها يشفي جراحاته قبل أن يواصل سفره. الفراغات البيضاء الموجودة بين الأبيات، بين الجملة والجملة، كلمات مخفيّة. علينا أن نقرأها ونستمع إلى موسيقى الشعر فيها، التي تشبه موسيقى الطبيعة والريح والماء والضوء. فالشعر، في نهاية المطاف، مثل الحبّ، ينتمي للجسد. وموسيقى الشعر تنبض في جسد القصيدة، بين الكلمة والكلمة، بين الحرف والحرف. هكذا تكتسب القصيدة موسيقاها الشعرية، لا من الخارج، بل من الدّاخل. إنها موسيقى فطرية تنبع تلقائياً من هندسة العبارات والجُمل.

بهذا المعنى، إنَّ الفراغات التي يتركها أدونيس، عمداً، مكانٌ للّقاء والراحة. ذلك المكان الذي يتوقّف فيه الشاعر، مثقلًا بكل أنواع الجراح، تاريخيّة كانت أم شخصيّة، فيتأمّل هذه الكوميديا العالمية المفجعة ​​التي نعيشها. غير أنَّ الجرح في "أدونيادا" غير قابل للشفاء. إنّه رمزٌ ميتافيزيقي يبدأ مع أسطورة آدم وحوّاء. لو بقي آدم وحوّاء في الجنة، لكانت الحكاية بشعةً جداً. لم نكن لنتعرَّف على هذه الحياة الرائعة، وهذا العالم الحلو والمرّ في آن معاً. لذلك، إنّ الجرح الذي يبدأ مع المرأة، مع حوّاء، له شكلٌ شاعريّ ومفرح. لكنه مع الموت يأخذ شكلاً مأساوياً. ليس لأن الشاعر ضدّ الموت. بل لأن الموت عقبة كبيرة أمام اللذّة والحبّ والسعادة في هذا العالم. 

فهم الشعر كنوع من القطيعة تحدث داخل اللغة الشعرية نفسها

للجرح وجهان: مأساوي ومفرح في آن معاً. ولا بدَّ من الأسطورة لفهم مفهوم الجرح الذي يطوّره أدونيس. فالأساطير هي كتاباتنا الأولى لفهم هذا العالم. وحينما يذكر الشاعر أسطورة الأميرة الفينيقية الجميلة، أوروبا، التي اختطفها زيوس من مسقط رأسها في صوْر، بقوّته وسحره، وكيف أبحر شقيقها قدموس بحثاً عنها، حاملاً الأبجدية إلى البلدان التي سُميِّت لاحقاً أوروبا، احتفاءً باسم شقيقته، فإن القارئ لا يستطيع إلّا أن يفكر في عالم اليوم، وفي العلاقات السياسية والاقتصادية والجغرافية والتاريخية بين الشرق والغرب، وفي الجراح التي تتمزّق بين حدودهما. الأساطير طفولةُ أيامنا وعلاقاتنا مع الغيب. إنها العرّافة التي تكشف لنا المجهول. 

كي نكتشفَ المجهول، لا بدَّ من الحرف واللغة. والأبجديّة مكانُ الخلق. إنّها الوطن الحقيقي للشاعر. لذلك، يجهدُ أدونيس نفسه في إظهار جمال وطنه اللغويّ. يرهق جسده في إظهار العلاقة بين الكلمات على مستوى الحروف. في الكلمات روابط صداقة تنشأ بينها عندما تعيش معاً. من هنا كانت الأبجدية مكاناً لاكتشاف المجهول. إنّها التجسيد الحقيقيّ للإنسان. لا وجودَ للإنسان من دون اللغة. وهو لا يستطيع أن يخلق إلّا باللغة أو اللون أو الرسم أو النحت. الأبجدية مكان اللقاء بين الجسد والحبّ. من خلالها نفهم الزمن، لكن ليس بمعناه الرياضي الأجوف، بل بمعناه العمودي، وربما الدائري أيضاً. وحده زمن الأشياء خطّيٌّ. أمّا عمودية الزمن فترتبط بحقيقة أنَّ الإنسان لا يأتي من الماضي، بل من المستقبل. ضمن هذا المعنى، يقترح الجزء الأخير من "أدونيادا"، الذي يحمل عنوان "خاتمة/ فاتحة"، هذا المفهوم الدوريّ للزمن. كأنَّ وجود الإنسان دائريٌّ. يبدأ من نقطة البداية. وكلَّما تقدّم سفراً في الزمن، عاد إلى النقطة نفسها. إلى الطفولة والقرية التي جاء منها. لهذا لن يستغرب القارئ أن يجد أدونيس، وهو في التسعين من عمره، يبحث عن طفولته، محاولاً اكتشاف العلاقة بين الطفل الذي كان عليه والشيخ الذي هو الآن.

في المقاطع الأخيرة من الكتاب، تتكثّف الكلمة وتُوجز، منذرةً بالصمت. "الكلمات الأكثر صمتاً تجلب العاصفة. الأفكار التي تسير بأقدام حمامة تقود هذا العالم"، يقول نيتشه. قد يكون هذا الصمت فسحة للراحة بعد رحلة متعدّدة. لكنّ أفق الإنسان هو المستحيل والمجهول. إنها معركتنا الحقيقية. لهذا، ينبغي علينا أن نخلق باستمرار كي نتجاوز أنفسنا ونتخطّى الواقع. لكنْ، لا تصدّق شيئاً في هذا الكون، عزيزي القارئ، "فكلُّ شيءٍ مَجازٌ".

يعانق أدونيس في كتاب "أدونيادا" الوجود فيما يتخطّاه ويتجاوزه. يخترق الحدود والحواجز وينسفها. القصيدة قنبلة تتفجر في الاتجاهات كلّها. لا حدود في القصيدة بين التاريخ والفلسفة، الجبر والجغرافيا، الحب والشعر، الرياضيات وعلم الفلك... 

يحرّرنا أدونيس بشعره من قيود الظلمات، يفتح أمامنا الأفق. يغنّي لطفولاتنا. يأخذ بيدنا ويقودنا حيث الضوء.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا، والنص من مقدّمته للترجمة الإسبانية التي أنجزها للعمل والصادرة حديثاً

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون