يقدّم الروائي عباد يحيى في روايته الجديدة "جريمة في رام الله" (منشورات المتوسط) نموذجاً لافتاً في تتبع حياة الجيل الفلسطيني الشاب، بمساراته التي فرضها الزمن المغاير والمتقطع، وبمآلاته وأسئلته الجديدة. إنها رواية عن المدينة، ورواية المنقطعين عن العائلة، ورواية عن فلاحين لم يعودوا فلاحين، ورواية الجيل الذي عاش في مراحل متناقضة، عن عوالمه النفسية الداخلية المركبة وعلاقته الملتبسة مع محيطه السياسي والاجتماعي، جيل يحنّ إلى المشاريع الكبرى التي عاش ظلالاً منها. وهي فوق ذلك، رواية عن ناس عاديين، وسرد لقصصهم المكتملة من دون كل ما سبق.
وكما هو مكتوب على غلاف الرواية، تصعب الإجابة عن سؤال من أين بدأت القصة؟ ويصعب تقديم أي ملخص لأحداثها، لكنها إجمالاً تتبع حياة ثلاث شخصيات مختلفة، تجمعها جريمة وقعت في حيّ الماصيون في رام الله، وتصير في ما بعد لحظة حاسمة في تغير بعض الشخصيات، وانتقالها إلى ظروف أخرى، ومبرراً لخيارات شخصيات أخرى.
رؤوف ابن أحد المناضلين، تتعقّد حياته منذ أن يصطدم بفتاة كانت في التاكسي الذي أقلّه من جامعة بيرزيت إلى رام الله. أما نور فهي شخصية أكثر إشكالية، إذ يكون لها خيارات جنسية مختلفة تأخذ تطوارتها مساحة كبيرة من انشغالات الرواية الأساسية. رؤوف ونور يعملان في بار/مطعم وقعت قربه الجريمة. أما وسام، فعلاقته مباشرة بالجريمة التي ستكون ضحيتها صديقته.
ومع أن القارئ قد يعتقد للوهلة الأولى، أن العمل يذهب إلى مسار تقليدي، يعرض تصورات وفهم شخصيات مختلفة لحدث واحد، لكنه ينتبه متأخراً إلى أن الرواية لا تضع نفسها في هذا القالب، فتقلل من مركزية الحدث، مقابل أحداث متعلقة بكل شخصية على حدة، وعلى العكس من النمط المذكور، فإن علاقة الشخصية بالحدث لا تبدو ظاهرة ولا مباشرة في حياة كل الشخصيات، لكنها لا تكتمل في نفس الوقت بدونه.
وفي الوقت ذاته، فإن رغبة يحيى بالتجريب أخذت سرد الشخصيات إلى أشكال وطرائق مختلفة ومتنوعة؛ رؤوف يروي سيرته بصيغة الماضي، لأن الرجوع إلى الماضي كان خياره الأخير، أما نور فبصيغة الحاضر المستمر والمتواصل، لأن مآسيه تأخذ هذا الشكل وحلوله كذلك. بينما ينزع العمل فاعلية الشخصية الأخيرة، وسام، فيختار لها راوياً عليماً، يروي عنها، في إشارة ربما إلى أنها الشخصية الوحيدة التي تعرّضت للحدث/ الجريمة بشكل مباشر، وحدّد لها مسارات حياتها وموتها بالمطلق.
يتوزع سرد نور عن نفسه إلى جزئين، جزء يتحدث فيه عن يومياته وما يعايشه، وجزء مطبوع بالخط المائل وبين مزدوجين كأنه مقتبس، يتعلق بما يكتبه نور بغية الحصول على لجوء في دولة أوروبية، بالتنسيق مع صديقه الفرنسي. العمل كان حذراً حذر العارف في تتبع مسارات الشخصية، فهو إذ يعرض ما لقيه من اضطهاد وتدخّل، من جيرانه إلى أصدقائه وزملاء المدرسة والجامعة، وحتى أفراد الأجهزة الأمنية، فإنه في نفس الوقت يضعه في سياقه المتداخل والغامض. فعرض الاضطهاد الذي تعيشه الشخصية متّصل مع تحويل الشخصية إلى مادة للتوظيف والحصول على امتيازات، وخصوصاً أن نور يعرض تفاصيل عن حياته الجنسية وحياة عائلته المتدينة التي ينتمي بعض أفرادها إلى حركة حماس.
الرواية تُعنى بتجديد يحسب لها، فرغم أنها لا تتعامل سوى مع فترة قصيرة من حاضر الفلسطينيين، لكنها تستدعي تفكيراً جدياً في الزمن الفلسطيني الراهن، الذي تحوّل كما تعرضه، إلى فترات متقطعة وغير متصلة. فيتذكر رؤوف مثلاً، الصورة الزيتية المعلّقة في بيته، لمجموعة من الفلاحين العائدين من موسم زيتون، و"كأنها صورة لأجداد بعيدين" من زمن غير هذا الزمن، مع أنها صورة عائلته قبل سنوات قليلة.
في الرواية سخرية سوداء من قدرة الفلسطينيين على تحويل حياتهم إلى ماض، أو رغبتهم الدائمة في عيش قصصهم داخل الأرشيف؛ سخرية من الرغبة في خسارة الأشياء حفاظاً على الحنين إليها، ومن التخلي عن الأشياء لحيازة دلالاتها، ومن تحويل المشاريع إلى صور معلقة في غرف الضيوف، وقطع الأراضي الشاسعة في القرى، إلى "ورود تافهة مزروعة على شرفات المدينة الضيقة".
تستخدم الرواية تقنية الأخبار (وهي مستخدمة في أعمال أخرى، لكن على نحو مختلف عن الطريقة التي وظّفها الروائي هنا)، لذلك نجد في بداية كل فصل خبرا وتاريخا حقيقيين، في إشارة رمزية إلى اتصال أحداث العمل بالواقع وانفصالها عنه في الوقت نفسه، فهي متصلة به لأنها جزء من واقع يحرص العمل على الالتزام به، ومنفصلة عنه لأن في هذه الأخبار التي قد تكون أحياناً عن أشياء لا علاقة للرواية بها، تأكيداً أن الحياة تستمر بشكلها الحاسم والطبيعي، مهما اختلفت تصوّرات الشخصيات والناس عنها.
رواية "جريمة في رام الله" عمل مفقود من الأدب الفلسطيني المعاصر، الذي نتساءل دائماً عن معاصرته الغائبة، وعن انشغالاته بماض قديم وأمكنة بعيدة. لكن يحيى يؤكد على صلته بالحاضر، وعلى مكان الرواية الطبيعي، بنتاً للزمن وللمكان (أو للمدينة ربما). وهو بذلك من الروائيين الفلسطينيين القلّة الذين يملكون مشروعاً واضحاً، بدأه بـ "رام الله الشقراء"، و"هاتف عمومي"، ويواصله الآن بـ "جريمة في رام الله".
لكن هذه الرواية على تواصلها مع ما سبقها، فهي الأقدر على الانفصال، بالأحرى التمايز، عن المقولات السياسية التي حملتها أعماله السابقة، فتخلّى عن معالجته المحملة بنقد ينطوي على مقولات سياسية واضحة، إلى معالجة مستندة إلى سخرية مخفّفة من هذه المقولات، إضافة إلى التركيب في بناء الشخصيات والولوج إلى عوالمها الداخلية وعرض تمايزاتها كشخصيات متفرّدة بذاتها، ومعبّرة في الوقت نفسه عن حالة ومرحلة وجيل.