31 مارس 2020
ما المزعج في ثقافة الرئيس التونسيّ؟
عرف التونسيّون قيس سعيّد قبل أن يصبح رئيسا للجمهوريّة، بوصفه أستاذا للقانون الدستوري في الجامعة التونسيّة، فكان يُدعى بذلك الاختصاص إلى نشرات الأخبار في التلفزيون الرسميّ للإدلاء بتحليلاته في مسائل تشريعيّة شائكة أثارها الانتقال الديمقراطيّ بعد أوّل انتخابات نزيهة شهدتها البلاد.
كان اللاّفت في شخصيّة الرجل انضباطه الذي يظهر على وجهه وفي نبرات صوته حين يجيب عن أسئلة الصحافيّين. ولكنّ ذلك الانضباط لم يمنعه من "الخروج عن النصّ"، أو المنهج المعتاد في الحوارات التي تتناول مسائل أكاديميّة جادّة. وهكذا فاجأ سعيّد جمهوراً واسعاً يتابع الأخبار السياسيّة باسترساله في عرض النوادر الأدبيّة القديمة بهواملها وشواملها، ما يدلّ على مواهب الرجل في الحفظ والتلاوة.
دُعي مرّة للتعليق على معوّقات تشكيل الحكومة فقال متنهّدا: "والله، تذكرني هذه المشاورات بما ورد في كليلة ودمنة حينما تحدّث عن السلطان، قال وإنّما شبّه العلماء السلطان بالجبل الصعب المرتقى الذي فيه الثمار الطيبة والجواهر النفيسة والأدوية النافعة وهو مع ذلك معدن السباع والنمور والذئاب. فالارتقاء إليه شديد والمقام فيه أشدّ. وكما تلاحظون هذه المشاورات تتواصل منذ أيّام عديدة، كأنّها مفاوضات الوضع النهائي في فلسطين بدأت ولم تنته...."
وكذلك كلام صاحبنا كاد أن يكون بلا نهاية لولا مقاطعة مقدّمة النشرة التي شعرت بأنّ مادّتها الإخبارية هُمّشت وأخرجت عن سياقها..
ولكنّ شهرة سعيّد اقترنت بشخصيّة الإخشيدي الذي استدلّ به في استضافة ثانية سئل فيها عن الإجراءات القانونيّة لاسترجاع الأموال المنهوبة التي بقيت عالقة في البنوك الأجنبيّة، فقال بمرارة، وعلى غير المتوقّع: "حظ الشعب التونسيّ كحظّ المتنبّي مع كافور الإخشيدي، ليس هناك إلاّ الوعود والمواعيد..". وظل سعيّد يذكر الإخشيدي في كلّ ظهور حتّى ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من المتنبّي نفسه.
وبعد انتخابه رئيسا للجمهوريّة، ودخوله قصر قرطاج مُحاطاً بالمستشارين، ظلّ قيس سعيّد محافظا على أسلوبه، متمسّكا بمرجعيّته اللغويّة والثقافيّة، بالرغم من الانتقادات التي أخذت تتهاطل عليه، وبعضُها يتّهمه بكونه رئيسا "عنيدا" لا ينصت لناصحيه بضرورة التخلّي عن المسالك الوعرة التي يتّبعها في مخاطبة الشعب.
وقد أثار ظهوره الأخير جدلا واسعا، بعد أن صوّرته كاميرات الأخبار ينقل المساعدات الموجّهة إلى الفقراء بنفسه، كما فعل عمر بن الخطاب حينما حمل كيس الدقيق على ظهره وتوجّه به إلى المرأة التي شكت إليه فقرها وجوع أطفالها وإهماله لأمرها.. وهكذا تقمّص الرئيس التونسيّ دور أمير المؤمنين بالفعل والقول فأدلى بكلمة أذاعتها وسائل الإعلام المحليّة والدوليّة ذكر فيها قصّة عمر قائلا بصرامة وخشوع: "كان يتفقّد أحوال الرعيّة فاستمع إلى امرأة تشتكي وتقول: تولّى أمرنا وأهملنا، فعاد إلى بيت مال المسلمين وأخذ جزءًا من القمح، وكان مصاحباً بأحد الأعوان، قال له أأحملها عنك أم أحملها عليك يا أمير المؤمنين؟ قال له: ويحك! احملها عليّ، أستحملها عنّي يوم القيامة؟!".
وأشعلت عبارة "ويحك" مواقع التواصل الاجتماعيّ، واستأنف جمهورها من العامّة والخاصّة معاركهم بين مؤيّد ومعارض لنهج الرئيس الذي يريد أن يكون في مكانة أمير للمؤمنين، مع تشكيك في مدى قدرته على الحكم بأدوات العصر وضوابطه الدستوريّة ما دام يتحدّث بمنطق الراعي والرعيّة، ويذكر "بيت مال المسلمين"..
وبعيدا عن الانخراط في ذلك الجدل، يلاحظ المتأمّل في الأمثلة السابقة، أنّ الرئيس التونسيّ يُجْهِد نفسه في إحياء زمن غابر، ليظلّ سجينا بإرادته بين قوالبه الجاهزة، متماهياً مع أبطاله كما بدا في تقمّصه لشخصيّة عمر بن الخطاب مدحاً، وفي تذمّره من الإخشيدي هجاءً.. والمدحُ والهجاءُ من فنون القول التي تتجاوز في المحصّلة الأسماء والأشخاص لتُلامس القيم التي تترجمها أفعالهم: صدقا وكرما أو كذبا وبخلا... ولكنّ الرئيس لا يبدو واعيا بتلك المعادلة الرمزيّة فآثر الذوبان في هويّة الآخر "المقدّس" بدل الانتساب إلى الفضائل التي يجسّدها.
وبذلك الميل، سيظلّ الرئيس إذا أصرّ، في وضع المتقهقر المنجذب إلى فكر سياسيّ يغطّيه الغبار الذي تكدّس بفعل الزمن، ما يثبت عجزه عن التحرّر من رؤيته الرومانسيّة التي توهمه بأنّ الماضي كان أفضل بكثير من حاضرنا، وأنّ أبطاله لا مثيل لهم في واقعنا اليوم. وكلّ ذلك يؤثّر سلباً على فعله السياسيّ، ويراكم الشكوك في صلابة وعيه بوظيفته كحاكم للحاضر والمستقبل.
ومع ذلك يبقى التفاؤل قائماً، فلا شيء يزعجنا في ثقافة الرئيس، إذا استطاع قريباً أن يجعل بينه وبينها مسافةً تمكّنه من الوقوف على أطلالها، والتأمّل في أدبيّاتها والاستفادة من دروسها أثناء القيام بوظائفه السياسيّة الثقيلة، دون الحاجة إلى أن يكون ناطقاً رسميّاً بمخزونها الثريّ من الأقوال والأفعال، أو "حكواتيّا" يروي لشعبه نُتفاً من قصص أبطالِها في مشهدٍ لا يخدم صورته بوصفه رئيسا لجمهوريّة حديثة، وصل إلى الحكم بأصوات الناخبين، لا بِبَيْعةٍ تحت شجرة طيبّة أصلها ثابت وفرعها في السماء.