سورية... وثوب التهجير!

04 يوليو 2019
+ الخط -
بكل بساطة أصبحنا مهجّرين، بعيدين عن الأهل والأحبّة الذين يعيشون مرارة الإقامة الجبرية في الوطن، وصاروا في غفلة عن أبنائهم وأحفادهم، وعن رائحة كل ما يمكن أن يثير اهتمامهم، سواء أكان ذلك عبر الشوق والحب والكينونة التي بدت، وكما هو واضح، ترحل بعيداً وتحط حيث لا وطن ولا حياة، على الرغم من مفرحاتها المتوافرة في بلاد الاغتراب، وبكثرة، فهي لا تساوي شيئاً حيال الواقع المؤسي الذي يواكب حاضر المهجّرين السوريين الذين فقدوا أغلى ما يملكون، وما يمكن أن يكون ذا مكانة في قلوبهم مهما توافرت لهم من راحة وسعادة، فستظل يلزمها الإحساس بالوطن الذي هو الحياة والأمل! وما يمكن أن يثير اهتمامهم داخل الوطن الذي صار مجرد ذكرى عابرة لا يمكن بحال العودة إليه في ظل الظروف الحالية الصعبة التي يعيشها أبناؤه، بل يحاول النظام، جاهداً إبعادهم عنه، بشتى الوسائل، ووضع العصي في العجلات حتى يفسح المكان لغيرهم، من أمثال العصابات الإرهابية التي وقفت معه ليتمكن من السيطرة على مقدرات بلد ضاع وفقد، وإبعاد أبنائه الذين ساهموا في بنائه، وما يجري الآن في مدينة "القصير" أكبر دليل على ذلك بتحويلها إلى منطقة عسكرية، وهي خاضعة لحزب الله اللبناني منذ عام 2013، بل أنَّ النظام فرض شروطا تعجيزية على سكان المدينة، الراغبين في العودة إليها.

فبعد الدخول إليها لا يسمح لهم أن يقيموا في منازل مدمّرة، أو منازل لا يملكون إثباتاً بملكيتها، ولا يسمح لهم أيضاً بإدخال مواد البناء، لترميم المنازل المهدّمة. وإصدار النظام القانون رقم 42 لعام 2018 القاضي بتعديل بعض مواد القانون رقم 10 لعام 2018 الذي سلب ذلك القانون أملاك الكثيرين من اللاجئين، وهو ما يزيد من صعوبة عودتهم من لبنان إلى مدينتهم، وفي الجنوب السوري لم يقصر عناصر حزب الله، في بعض قرى اللجاة، على هدم البيوت بشكل منظم عن طريق وضع عبوات في المنازل ما يؤدي إلى هدمها بشكل كامل ليصبح غير قابل للسكن أو الترميم، وبعد سيطرة قوات الأسد على المنطقة في تموز العام الماضي، أصبحت منطقة اللجاة تحت سلطة الحزب الذي منع المهجّرين من العودة إلى قراهم، وفوجئ سكان القرى بتفجير منازلهم، وهي قرى صغيرة ومتناثرة.


الوطن الذي فقدنا ترابه وأرضه وبريقه، وكل ما هو جميل في ذاكرتنا، نحن السوريين، لم يعد بمقدورنا اليوم، التفكير به، بعدما دمّر أجزاء كبيرة منه، وفقدت الناس مساكنها ومأواها، وما أصابها من إذلال وتطهير إلى ما هي عليه من وهم كبير، وأحجية أريد منها أن تصبح في عداد الأموات، تغتسل بأحلام الوطن الذي يعيش في قلوبنا وفي وجداننا!.

والسؤال عن الوطن الذي اغتصب، كما هو حال المرأة التي تنازعها رجال واغتصبوها عنوةً، ماذا عساها أن تفعل، وهذا ما يحفر في وجدانها، وفي ذاكرتها وعواطفها النبيلة، الكراهية والسخط والحقد الدفين لمجرد تذكّرها واقعة الاغتصاب وساعة حدوثه؟!.

يسأل أحدهم، ممن نلتقيهم، وهل من الممكن أن نقارن ما يجري على أرض الوطن، بما تصورونه اليوم، أنتم يا معشر حملة الرسالة، روّاد الفكر والقلم، من أفكار وآراء يمكن أن تعكس الصورة الحقيقة لما يجري من صور عديدة لا يمكن بحال إيجازها؟.

لا شك أنه تشبيه سخيف، ولكن من الممكن أن يكون هناك وجه تقارب فيما يحدث وما زال، والماكينة التي تطحن كل ما يمكن أن يجعل منها أداة لهرس كل ما يقع تحت حلزونها بعيداً في ذلك عن أي عواطف، أو مشاعر وأحاسيس. وهذا ما نقرأه اليوم في دفاتر الوطن، وما أصاب أهله من دمار وحرمان وصور أليمة لم يعد بمقدور من يحمل راية القلم أن يقدر على تصويرها، لأنها صارت همّاً كبيراً لا يمكن أن ينجح في الوصول إلى حل، أو إعادة النظر فيه مهما حاولنا إسقاط ذلك على ما يجري على الأرض السورية، ومدنها وقراها وما خلفته آلة الدمار من خراب من الصعب ترميمه أو إعادته إلى ما كان عليه قبل انطلاق الشرارة التي أضرمت النار في كل مكان. فأيّ وطن، وأي مواطن يمكنه أن يرثي حال ما يجري اليوم، بعد أن دق الخراب في كيان المدن، وأهلك النسل والحرث!.

وما يمكن أن نقوله، يستدعي منا إلى أن نقف، وبصدق مع أنفسنا، مستعرضين ألوان الصور التي أوغلت جرحاً عميقاً في الذاكرة، وها هي النتائج نستخلصها تباعاً، تماشياً مع ما يجري على الأرض التي كانت ترضي أهلها، وتغنيهم عن جيرانهم، وترضيهم.

سورية بلد الأصالة والنهر والأرض. إنها عشق أبدي يستظل بظلّه أهلها الطيبون الذين عمّروها بسواعدهم الفتية. أشادوا الأبنية، وبنوا الجسور، ومدّوا الطرق، وأقاموا المصانع، وطوّروا الزراعة، وبعقولهم النيّرة أضاؤوا الطرق المظلمة.

انه الشعب السوري الذي هجّر من أرضه وأذاقوه شتى أنواع العذاب. انّه الشعب المجتهد، الغيور المتابع. الشعب الذي يعرفُ كيف يصطاد السمكة!.

المواطن السوري، الأشم.. صاحب العزيمة والوجدان والحكمة. الشجاع والحكيم في تصرفاته، وفي عزيمته، وفي روحه الصادقة البريئة المتواضعة، وفي عاطفته، وفي خدماته التي يشهد عليه كل من عرفه أو سمع به وعاشره.

وهذا هو حظّه، وللأسف، من قيادته التي ألبسته ثوب التهجير والبعد عن لحافه ووسادته!.

ما العمل؟ فقد هرب من القتل والدمار متدثّراً ببعض ما بقي عسى أن ترد عنه برد الشتاء القارس الذي لا يرحم، والتزم الصمت هارباً من واقع سيئ لا يمكن أن يعيد له الأمل من جديد، بل أنه لا يزال يشكل عنواناً عريضاً لبكائية لا يمكن لها أن تغفل ذاكرته عن تذكّرها، أو تُطبق أجفانه عن تساقط الدموع ألماً لما حدث، وما زال يحدث والى الآن. فإلى متى؟!
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.