التبغ

16 يونيو 2017
+ الخط -
تبغ 1
في نقاش مع صديقة ألمانية حول التدخين واقتصادياته وسياساته، أخبرتها أننا في سورية، مُنِعْنا من الإعلان عن منتوجات التبغ قبل عشرين عاماً في الشوارع والتلفزيون ووسائل الإعلام (على أساس أنا وحكومة حافظ الأسد منعناه سوى)، وما زال هذا مسموحاً في ألمانيا. يمكن أن تشاهد إعلان التبغ في الشارع أو على صفحة مجلة. أخبرتها أنّ أجيالاً كاملة دخّنت بسبب كاوبوي "المالبورو" الشهير الذي يشعل سيجارته بعود يشعله عبر جمر يتدفأ به هو وحصانه وقبعته الشهيرة. أجابتني أن الوضع في ألمانيا مختلف، وأنهم كانوا تحت الاحتلال الأميركي لسنوات، وأن نفوذ شركات التبغ الأميركية (كـ"فيليب موريس")، قوي جداً، وليس من السهل التأثير عليه، ودخلنا في نقاش أوسع حول الاستعمار والبوست كولونيالية. قلت لها آخر شيء بعد ما عجزت: مو ناقص غير تقولي الله يلعن الاستعمار، وفرنسا ليكمل الفيلم.


تبغ 2
أحب الطريقة التي تدخن بها البافاريات في الشارع. لم أشاهد هذه الفرجة من قبل، كم أنا سيىء الحظ، دائماً ما أصل متأخراً.
تمشي كارولين، الفتاة التي أفترض أن اسمها كذلك، بإمكانكم أن تنادوها هيلن أو كارين، أو ما شئتم، غير عابئة بالجموع التي تنهب في بلاط جادة المشاة. بياض سماعتها يتدلى على سواد المعطف، السيجارة تقف بين أطراف أصابعها. السبابة والوسطى قريباً من مناكير أظافرها، بثبات تام دون حركة أو ميلان. السيجارة في يدها كائن مستقل، المسافة التي تفصل بينهما تقول ذلك. هي على أهبة الاستعداد للتخلي عنها في أي وقت ولأي طارئ كان، كأن يفاجئها أستاذها في المدرسة متلبسة بها، أو أن ترى حبيبها فاتحاً ذراعيه لعناق حار. هذه ليست عادة المدخنين من الرجال وأنا منهم، السيجارة لا تكف معنا عن الحركة من يد ليد ومن زاوية الشفة إلى مقابلتها، نعتصر رقبتها المقيدة في الفراغ الصغير بين السبابة والوسطى مع كل مزة أو شهقة، ونلوح بها في الهواء كأنها عصاة سحرنا المزعوم الذي نطرد به الذكور الآخرين، أو أنها مجاز مكرور لا نستغني عنه في لغة أجسادنا. لا سبيل لأن تشعر سيجارتنا بالراحة، ستعاجلها السبابة بضربتين محكمتين على الرأس لتقذف رمادها وتعود لقيدها.


كارولين تمشي منشغلة تاركة السيجارة تأخذ وقتها في الاشتعال، لا شيء مما تفعله يمكن أن يزعج السيجارة. حتى عندما تقربها من شفتها وهي تكمل حديثها على الهاتف، لن يتساقط الرماد على الفستان، مهلاً، لا فستان في الشارع كله، الفستان مجاز كارولين، لا استعراض أبداً في مجّة السيجارة، هو فعل اعتيادي يجري بلطف وكفى، لا تليه صفنة أو استغراق نظر نحو طوطم ما، أو أنه يمهّد لحكمة أو بيت شعر، هو علاقة أنثى بأنثى، قريبة بما يكفي لأن تكون أمها وبيت أسرارها وبعيدة ما يكفي للتخلي عنها بسهولة.
يا عم فرويد..احضرنا.



تبغ 3
قلَّما أخرِج سيجارة من علبة تبغي، إلا واقتربَ شخصٌ ما، ألماني أو أجنبي، وطلب سيجارة. ليس من عادتي أن أصدّ هؤلاء، بعضهم يطلب، وهو يحمل بيده عشرين سنتاً، ثمناً للسيجارة، لم أقل لا حتى الآن، ربما يجب أن أتعلم هذا، ولا آخذ ثمناً لأعطيتي. كنت أتساءل هل هذه الجرأة في الطلب طبيعية أم أن مردها هيئتي، الغريبة الأجنبية الشرق أوسطية العربية المسلمة الخائفة المرتبكة الهشة التعبة الذاهلة، هي التي تشجعهم على الطلب دون الخوف أو التفكير باحتمال رفضي لطلبهم؟
فعلتها مرة. نفد مني التبغ في محطة الباص أثناء السفر، قررت أن أطلب سيجارة من أحد المدخنين حولي. مسحت طائفة المدخنين بعيني على مهل، واستقرَّت عيني على صيد يبدو سهلاً. شاب هيئته هندي أو باكستاني يدخن بقرب سلة المهملات الخاصة بالمدخنين. اقتربت منه حاملأ العشرين سنتاً، عدة النصب، وسألته: "سيجارة؟".
لم يتردد وأعطاني واحدة مع رفضه للعشرين سنتاً طبعاً.
في رحلة سفر أخرى. تعطل الباص وبقينا في الاستراحة حوالى الساعة، اقترب شاب إيطالي الهيئة واللهجة وطلب سيجارة. افترضت سلفاً وجود هيئة إيطالية، وأني قادر على معرفتها، حتى قبل أن ينطق الشاب، وتفضحه لكنته الواضحة جداً. أعطيته وأشعلها وهو يسألني، من وين أنت؟ لهجتك ليست ألمانية؟ قلت له. "سوري". شهق وقال لي: "مستحيل، مستحيل تكون عربي، هيئتك ألمانية بحتة! مستحيل فعلاً".
ضيفته سيجارة ثانية قبل ما أمشي وأنا أبتسم. قلت لي هيئتك ألماني؟ على ماما يا بابا؟ على هامان يا فرعون... اللي بنعمله في الناس حيطلع علينا ولا إيه؟  على رأي المصريين.


EF9CDCFA-70F5-48FA-A951-FEAC223929E2
عسّاف العسّاف

كاتب سوري يعيش في في العاصمة الألمانيّة برلين. صدر له كتاب بالعربية والألمانية بعنوان "أبو يورغن يومياتي مع السفير الألماني".