إلى جازية وكفا وصابرين وبقية بنات العكيرشي

27 مايو 2017
+ الخط -
هذا الاسم لي وحدي، لا أعطيه ولا يمنح لأحد من بعدي. هي لعنة مرصودة. من أراده فعليه أن يستخرجه بنفسه حيث وُجِد الاسم أول مرة، هناك في الكتب القديمة، في مرويّات المجالس وسهرات البيوت، في قصص دياب وتغريبة بني هلال.
تقول أمي.

أسبوع كامل، وهي بين يدي الحدادين في المنطقة الصناعية في دير الزور. سيارتي ذات الثلاث عجلات. عدلتُ صندوقها الخلفي لتسع عدداً أكبر من الركاب، رفعت زنارها المعدني على جانبيها حتى غدا بطول قامة الإنسان، ومددت أقواساً بينهما لحمل الشادر المتحرِّك في الشتاء. اليوم، ولأول مرة، سأحمل تسعاً وثلاثين فتاة، مسير نصف ساعة إلى حصاد القمح خارج القرية.
 يقول أبو غازي سائق السيارة.

اشترى، نوري الشعلان، وهو أحد مشايخ قبيلة الرولة التي تستوطن بعض بطونها حول دمشق دار ياسين الهاشمي، رئيس الوزراء العراقي السابق، وبنى مسجداً قربها فأخذت دمشق اسمه وأطلقته على الشارع والحي، وكان الشعلان.
تقول ويكيبيديا.

سمّاني خالي على اسم ممثلة ظهرت في مسلسل مصري "ليلة القبض على فاطمة"، هل تعرفونه؟ راق الاسم لأمي ولم يبدِ أبي اعتراضاً، فقد سمّيت أخواتي الثلاث حسب مشيئته، نصرة وابتسام وفطيم فاطمة على اسم جدتي. أحبُّ اسمي وأحب المسلسل. شاهدت حلقات منه على يوتيوب. وجنت أحايج خواتي الكبار أنه اسمي أحلى من أسمائهن.
تقول صابرين.

أعرفهن بالمكان الذي أقلّهن منه صباحاً، فهذه ابنة أبو محمد الحسين، وتلك الصغيرة ابنة خلف الإبراهيم، وأولئك الثلاث بنات العطية. الآن، بعد أسبوع من بداية الحصاد، أعرفهن من العيون والطول والوزن واللباس ولون الشعر في بعض الأحيان. لا يحتاج الأمر فراسة كبيرة للنظر خلف اللثام، اللثام ضروري لتجنب الغبار وأشعة شمس الظهيرة. أنا لا أحتاجه في سيارتي، هن أجل. من يحتمل أن يعمل تحت شمس أيار سبع أو ثمان ساعات دون لثام؟
يقول أبو غازي سائق السيارة.

يقال إن اسمه الأصلي حمد، وهو أكبر إخوته، إلا أن أباه غير اسمه إلى لورنس أو أورنس تيمناً باسم صديقه الإنكليزي الجديد، وغلب عليه هذا الاسم طيلة حياته. سمعت بلورنس الشعلان من جدي قبل أن أسمع بـ توماس لورنس/ لورنس العرب/ وعمر الشريف. كان لورنس الشعلان يتحكَّم بمنطقة واسعة في البادية التي بين الأردن والعراق والسعودية، هو الآمر الناهي فيها من تجارة وصيد وتهريب وأخباره وقصصه تملأ الآذان.
من الصعب الحكم، إذا ما كان انتشار اسم لورنس في ريف دير الزور، والمنطقة الشرقية، يعود إلى لورنس العرب أو إلى ابن شعلان، أو إلى الفيلم الذي قرّبه لنا عمر الشريف. أعرف ثلاثة على الأقل في موحسن وحدها اسمهم لورنس ومن أجيال مختلفة.
نقول ويكيبيديا وجدي وأنا.

بعد أن أوصلهن صباحاً إلى مكان الحصاد. أشرب كأس شاي واحداً مع متعهد الشغل وأعود لأستريح في منزلي أو أقضي بعض الحاجات هنا أو هناك بانتظار أن تحل ساعة انتهاء العمل. أحمل الفتيات في السيارة مرة أخرى مع حرصي التام أن أعود بنفس العدد الذي قدمت به صباحاً. لا أريد أن أنسى واحدة منهن وأضع نفسي في سين وجيم. رغم التعب الذي ينال من الفتيات إلا أن رحلة العودة أكثر حيوية من الرحلة الصباحية. فأصوات الضحك والهمهمات والاتفاق على مشاريع المساء والأحاديث السرية والأغاني في أغلب الأحيان تستهلك الطريق كله. من أين تأتي هؤلاء الفتيات بهذه الطاقة العجيبة؟
يقول أبو غازي سائق السيارة.

كان أبي يعمل في الخليج. في السعودية تحديداً. ولدتني أمي في إحدى غياباته السنوية. بعث مرسالاً أن يسموا البنت، موضي، على اسم بدوي نسائي منتشر هناك،. لم تجد نفعاً معارضة أمي الشديدة لهذا الاسم. كانت تريد كفا اسماً لي، وهكذا عشت باسمين. اسم في السجلات الرسمية، واسم آخر تناديني به أمي، وجميع الناس من بعد إصرارها على هذا الاسم. ومن يومها، وعيت على قصص الأسماء وتواريخها. وبدأت بلعب لعبة اخترعتها بنفسي، تحليل وتركيب الأسماء.

أحلل الاسم وتاريخ ظهوره وانتشاره وسبب ذلك أو أطلق أسماء أخرى على زميلاتي تتناسب مع طباعهن وشخصياتهن. صديقتي الكتومة أمل أسميها، حبابة قطنة، على اسم عجوز ماتت قبل خمسين سنة اشتهرت في القرية بكتمانها وصمتها. وأخريات أطلق عليهن أسماء من مثل هضيمة وصبحة ونصرة وعمشة وشمسة وخلفة وطاسة وفضة ونجمة من أسماء جداتنا الراحلات كل على حسب صفتها. أحياناً أحلل الأمر بهذه الطريقة: في الأربعينيات وأول الخمسينيات، كانت تاء التأنيث حاضرة في أغلب الأسماء، فوزية وفضيلة ونعيمة وأسماء لا تعد ولا تُحصَى. في الخمسينيات المتأخرة، ظهرت مجموعة مختلفة من الأسماء الأنثوية. لم تعد تاء التأنيث حاضرة فيها، إلا أنها ما زالت على تخوم الأنوثة. نجاح وسعاد وصباح وانتصار وازدهار واتحاد، مع بعض الأسماء التي ارتبطت بمناسبات وأحداث سياسية كوحدة وثورة وعروبة. مع الستينيات والراديو والتلفزيون، انتشرت أسماء بلمسة أنثوية أوضح من سابقاتها، ابتسام وأحلام وهند وعفاف وسماح وليلى قبل أن تأتي السبعينيات والثمانينيات بجيش كامل من الأسماء الأنثوية الصرفة، رباعية الحروف وثلاثيتها، رانيا وريم ودينا وديمة ورنا وسحر وشغف وراما وسلمى وعبير ونور ونورا ونوار ونوارة وتنويعاتها وتصريفاتها. في التسعينيات وما تلاها، أصبح الاسم الجديد ينزل في باريس ونيويورك وقريتنا في نفس الوقت.
تقول، كفا، أكبر فتيات الحصاد سناً.

أراها من بعيد، تسيرُ ببطء على الطريق الزراعي. سيارة نقل متوسطة مكشوفة، لا تبدو سيارة عسكرية أو من النوع الذي يستخدمه الإرهابيون عادة، لكنّها مكتظة بأناس ملثمين. من هؤلاء؟ ماذا يفعلون في حر الظهيرة بين البساتين؟ سأطلق صاروخاً عليها وستأتي الإجابات لاحقاً.
يقول طيار ما.

جازية وكفا وصابرين وحوالي عشرين أخريات قتلن بغارة لطيران التحالف على قرية العكيرشي في ريف الرقة. يقول الخبر الذي يمر أسفل الشاشة دون أن يقف عند أسماء الضحايا أحد.

EF9CDCFA-70F5-48FA-A951-FEAC223929E2
عسّاف العسّاف

كاتب سوري يعيش في في العاصمة الألمانيّة برلين. صدر له كتاب بالعربية والألمانية بعنوان "أبو يورغن يومياتي مع السفير الألماني".

مدونات أخرى