ذاكرة تكاد تهرب

09 مايو 2017
+ الخط -

مكتبتي تنمو بشكل مثير للدهشة، قبل عام تقريباً، كانت مكتبة صغيرة، اليوم، صارت مكتبة ضخمة، تصلح لالتقاط الصور إلى جانبها، هل ثمة مكان في الدنيا أجمل من مكتبة أنيقة تلتقط الصور أمامها؟

- البحر طبعاً!

بعد عام 1967 أنشأت إسرائيل أحواضاً شاسعة لمياه الصرف الصحي. صادروا أراضي زراعية غربيّ المدينة وحفروا بركاً عملاقة لهذه الأغراض. صارت هذه البرك تبدو من بعيد وكأنها بحيّرات؛ شمس ساطعة وشجر عالٍ يحيطها. كان ينقصها أن تتقافر الأسماك فوقها لكي نندفع في تصديق هذا المشهد أكثر. ذهبنا إلى هناك والتقطنا كثيراً من الصور. نقف، نمد أيدينا على أكتاف بعضنا بعضاً ونبتسم. واحد اثنان ثلاثة. صورة جديدة!

كل يوم أذهب إلى تلك الغرفة التي تحتضن المكتبة مثلما تحتضن قطة أطفالها الصغار. أقف أمامها وأحدّق طويلاً كمن ينظر إلى مشهد يحبس الأنفاس. هذه هي طريقتي الخاصة بالاحتفال بالمكتبة التي تنمو وتتعربش الجدار على طريقة الدالية.

لم يكن الوصول إلى "بحيرات" الصرف الصحي أيامها سهلاً. كان عليك أولاً أن تجتاز الحيّ السكني المكتظ غرب المدينة، ثم تعبر أراضي شاسعة متشابكة الأشجار، ثم تصعد تلالاً رملية مرتفعة، وهي بدورها تجعلك في مواجهة مباشرة مع مناظير الجيش التي تحرس الحدود. قبل الانتفاضة، تغاضى الجيش عن رؤية الناس في هذه المنطقة، وبعدها، ارتفعت حساسيتهم الأمنية فشرعوا بإطلاق النار على أي شيء يتحرك. مرة أطلقوا النار على شاب فأصابت الرصاصة مقدمة رأسه. استبدل الأطباء الجزء المكسور من جمجمته بغطاء بلاتيني، فصارت جبهة رأسه عريضة أكثر من اللازم.

أول رواية اقتنيتها في حياتي كانت لعبد الرحمن منيف، مدن الملح. طلب محاضر مادة نظريات علم الإنسان في الجامعة منا أن نقرأها، فاشتريتها. حاولت قراءتها، فوجدتها مملة لدرجة استحال عليّ إكمالها. استعارها لاحقاً أحد الأصدقاء، ولم يرجعها!

أعاد الاحتلال تكرير مياه الصرف الصحي لأغراض استخدامها في ريّ المحاصيل الزراعية. امتدت سهول القمح والذرة خلف "البحيرات" على اتساع النظر. في الصيف، كنا نذهب إلى هذه الحقول، فنستولي على كميات كبيرة من الذرة، كميات تكفي لإطعام عشرة أشخاص في ليلة كاملة.

أول نصٍ قرأته في حياتي وتمنيت لو أنني أستطيع أن أكتب مثله، لفرط جماله، كان نص "مقدمة" كتاب "رجال حول الرسول" لخالد محمد خالد. مقدمة طويلة، تجاوزت حدود الثلاثين صفحة. فيها شجن كبير ولغة أخاذة. وقعت عليها في المرحلة المتوسطة من المدرسة، فأعدت قراءتها لأكثر من عشرين مرة، لدرجة أنني اعتقدت أنه لم يُكتب قبل أو بعد هذه المقدمة نصوص أجمل منها.

في الصيف، تكتظ الممرات الضيقة التي تحيط بهذه "البحيرات" بالشبان الذين جاؤوا من أصقاع المدينة المختلفة. استجمام من نوع خاص تمنع فيه السباحة. عمدت إسرائيل على إغراق هذه البحيرات بتراكيب كيميائية تحول دون انبعاث روائح كريهة منها في معظم أوقات السنة.

في المكتبة، لا أحد يستطيع أن ينام. هنالك ضجيج مكتوم تماماً يحول دون قدرة أي أحد على النوم. حاولت كثيراً ولم أستطع.

حول "البحيرات" وفي الممرات الضيقة الطويلة، نظمنا مسابقات السرعة. يركض الشبان بشكل ثنائي، والفائز يخوض سباقاً جديداً مع الفائز من السباق الآخر، وهكذا، حتى نصل الى أسرع شاب على مستوى المدينة كلها.

انتهيت قبل أيامٍ قليلة من قراءة كتاب "لعبة الفئران والرجال" للروائي الإنكليزي جون ستاينبيك. في معظم أوقات القراءة، كنت ممدداً على كنبة من كنبات المكتبة. تملكني هواجس مرعبة حول فئران تتسلل من مكان ما، مكان سريّ وغير مرئي لي، وتجهز على المكتبة كلها، انتهيت من القراءة، فانتهت الهواجس.

قبل شهور قليلة من إغلاق إسرائيل منطقة "البحيرات" بالجدار الفاصل والأسلاك الشائكة، أحضر شبان المدينة فئراناً كبيرة وقططاً، ربطوا ذيولها بقطع قماش مبللة بالكاز والبنزين، وأشعلوها، ركضت الفئران والقطط مذعورة في سهول القمح والذرة فأحدثت حريقاً هائلاً هناك، استمرت عمليات الإطفاء لأيام عديدة.

- انتهت الذاكرة.

يقول ميشيل دي مونتين: ليس هنالك من شيء يثبت في الذاكرة مثل تلك الأشياء التي نرغب بنسيانها.
دلالات
30EB250B-A4BD-4DB8-8ECC-ABA4A4B2269E
30EB250B-A4BD-4DB8-8ECC-ABA4A4B2269E
أمير داود

كاتب فلسطيني. صدرت له مجموعة نصوص سيرية بعنوان "صديق نقطة الصفر".

أمير داود

مدونات أخرى