طائش على "شبر سيجارة"

23 ابريل 2017
+ الخط -



صرتُ مدمن سجائر مجنوناً. تفتك السجائر كل يوم بجسدي. ظلت تنهش صدري حتى حولته مثل كهف مليء بأبيات العناكب، أتخيله أسود غامقاً، تسيل نقاط زيت سوداء على جدرانه.

لكني أحب السجائر، أرتعد من الخوف أكثر إذا تلبسني إحساس بعدم قدرتي على شرائها. أجد نفسي أشتري أكثر من علبتين في كل مرة أزور البائع فيها، وبمجرد التفكير في ترك السجائر يتلبسني شعور الخيانة لرفيقة روحي. جربت مرة أن أستبدلها بسيجارة إلكترونية، ببطارية وبلا رائحة أو عبق سجائر، راودتني أحلام مزعجة بعد ذلك عن سيجارة تبكي طوال الوقت، تبكي دموعاً حقيقية بوجه حزين ذابل.
 
في حياتي كلها، دخنت كمية هائلة من السجائر؛ افتعلت فيها قلقًا ليس لي ولا يخصني. التدخين احتفالية قلقة. أحب التدخين الذي يشي بقلق كبير.

أجمل السجائر وأشهاها حين تتطوع السيجارة -إلى جانب رأسك- في حل إشكالية ما، وكأنها تقول لك: فكر كما تريد. افعل ما تريد. بلا سيجارة، لن ينفع الأمر. كل الأمور لا "تزبط" عندي بلا سيجارة. أنا شخص كسول ودائم الاعتماد على الأشياء من حولي، وأولها السيجارة.
 
كانت صورة الشهيد صلاح خلف أبو إياد في كتاب "المنظمة تحت المجهر" لهيلين كوبان، وهو يتحدث في إحدى الجلسات الثورية للمنظمة والسيجارة في يده؛ مفتاح التعلق الأول الشرعي لمشروع مدخن مجنون يفتعل القلق من أجل سيجارة لازمته في كل أوقاته. القلق جميل. القلق يعني أنك تفكر في شيء مهم. يعني أنك تجاوزت العادي إلى شؤون لا يفهمها الجميع.
 
قبل أكثر من سبع سنين، تركت التدخين لشهر كامل. شهر كامل بلا تدخين. قطعت وعدًا لعبير، زوجتي، بأنني لن أدخن، خلص بكفي. قلت. بعد ذلك، عانيت فراغًا داخليًّا مروعًا نتيجة الانقطاع عنه، وكأن شيئًا ما، قوة ما، استبدلت الدماء داخلي بمياه رخوة. شعور لا يمكن وصفه، ولا احتماله. احتملته لشهر كامل. نجحت في ذلك إلى أن رأيت تلك البنت الجميلة تدخن؛ بنت جميلة وتدخن؟ كنا في ورشة عمل تدريبية، خرجنا في استراحة قهوة وسجائر، ورأيتها تدخن، وأنا محروم منها بإرادتي. إنها السخرية تمشي على قدمين. بنت جميلة تدخن؟ تحولت المدينة كلها إلى فم كبير يدلق لسانه في وجهي. هذا منظر لا يحتمل. قلت: بكفّي. واعتذرت لنفسي عن شهر كامل من الحرمان والصيام والتعب. وعدت إلى التدخين.

لم أجرؤ بعدها على التفكير بالأمر؛ الحياة وتفاصيلها، وموت الرياضيين والأصحاء؛ كانا كفيلين بإمدادي بكل الأسباب الممكنة للسخرية من فكرة ترك التدخين.
 
كيف تترك كل هذه المتعة؟ كيف تترك كل هذه النشوة المجانية التي لا يلومك القانون عليها ولا يسألك عنها أحد؟
 
في الأشهر القليلة الماضية، مرضتُ أكثر من سبع مرات، وفي كل مرة، كان التدخين قابعًا برأسٍ منحنٍ إلى الأسفل في شباك الاتهام. التدخين مسكين، ما إن يعلم الطبيب والناس من حولك بأمر مرضك، حتى تبدأ الأصابع بالتحرك أمام وجهه. إنه المتهم السهل المسكين. إنه السبب الكسول الذي يقف خلف كل الجرائم غير المكتشفة.
 
تسيطر علي من حين إلى آخر، مشاعر بالسوداوية والندم على كم السجائر التي استهلكها يوميًا، أقول لنفسي: إنك تنتحر ببطء. إنك تذهب بنفسك إلى هاوية حقيقية بعيدًا عن كليشيهات التحريض ضد التدخين، ومع ذلك، أواصل التدخين بنفس القدر والزخم، وأؤجل الأمر، أمر التفكير في إنهاء هذا الكابوس مثل، مثل ماذا؟ مثل غبار خلف الستائر، هذه المرة.

 
تقول قصة شهيرة قرأتها على الإنترنت:
 
"ﺳﺄﻝ رجل بحارًا: ﺃﻳﻦ ﻣﺎﺕ ﺃﺑﻮﻙ؟
ﻗﺎﻝ: ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤﺮ.
ﻓﺴﺄﻟﻪ الرجل: وجدّك ﺃﻳﻦ مات؟
ﻗﺎﻝ: ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤﺮ أيضًا.
ﻓﺼﺮﺥ ﺍﻟﺮﺟﻞ مستغربًا، ﻭﺗﺮﻛﺐ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺑﻌﺪ هذا؟
اﺑﺘﺴﻢ ﺍﻟﺒﺤﺎﺭ ﻭﺭﺩ ﺑﺎﻟﺴﺆﺍﻝ ﻧﻔﺴﻪ: ﻭﺃﻧﺖ ﻳﺎ هذا ﺃﻳﻦ ﻣﺎﺕ ﺃﺑﻮﻙ؟
ﻗﺎﻝ الرجل: ﻋﻠﻰ فراشه!
قال: وأين مات ﺟﺪﻙ؟
ﻓﺄﺟﺎﺏ: ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺍﺷﻪ أيضًا.
ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﺍﻟﺒﺤﺎﺭ ﻋﻨﻪ عائدًا ﺇﻟﻰ ﻗﺎﺭﺑﻪ وهو ﻳﻘﻮل: ﻭﺗﻨﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﺮﺍﺵ ﺑﻌﺪ كل هذا!؟
30EB250B-A4BD-4DB8-8ECC-ABA4A4B2269E
30EB250B-A4BD-4DB8-8ECC-ABA4A4B2269E
أمير داود

كاتب فلسطيني. صدرت له مجموعة نصوص سيرية بعنوان "صديق نقطة الصفر".

أمير داود

مدونات أخرى