زراعة الشنكليش

26 يناير 2017
+ الخط -

عشت خمسين عاماً من عمري، وأنا على يقينٍ تامّ بأنّ الشنكليش يتم تصنيعهُ من بقايا اللبن. فقد شاهدته حليباً في ضرع بقرة، ثم حليباً رائباً في طنجرة جدتي النحاسية، ولبناً أبيض الوجه في نفس الطنجرة.


وبعد ذلك ساهمت، بسواعدي الضعيفة، في الإمساك "بالخضة" الفخارية، وتحريكها إلى الأمام والخلف، إلى أن يتم فصل الزبدة عن "الشنينة"، فيتم تفريغ المحتوى في وعاء آخر، إذ تقوم جدتي بجمع الزبدة، ورفعها إلى مكان آمن، قبل أن تسمح لنا بشرب "الشنينة" قدر ما نشاء، وخاصة إذا كان الوقت صيفاً. وأجمل الأوقات لشرب الشنينة، وهي لمن لا يعرف، بقايا اللبن المخضوض بعد نزع الزبدة منه، التي ستتحوَّل بدورها إلى "سمن بلدي"، هو في موسم الحصاد في الصيف، إذ كان الأطفال الصغار يحملون الزوادات إلى الحصادين في الحقول بمعية سطل الشنينة الباردة، أو في وقت "التشميل"، عندما تتابع الصبايا السمر الحاصودي لعلي الديك، لجمع القمح المحصود وربطه في "أشمال"، ومفردها "شمل"، وهو تقليد بعمر الحصاد، ولم يكتشفه علي الديك.

بعد ذلك الاستطراد في استخدام "الشنينة"، ومحاولة النيل من، علي الديك، لموقفه السياسي السلبي من الثورة السورية. نعود لمتابعة صيرورة "الشنكليش"، لمعرفتي بتفاصيل تصنيعه، حتى أن أحد "الأساتذة" في المعارضة، قد نصحني أن أكتب بحثاً عن الشنكليش الوطني، وأقدمه لأحد مراكز الأبحاث، التابعة لمؤسسات المعارضة، لنيل شهادة دكتوراه عنه، ضمن عمليات البحث عن بدائل للمجاعة التي تعصف بالشعب السوري بشقّيه المؤيد والمعارض، وداخل سورية وخارجها، فيكون بحثي بذلك، قدوة في العمل الوطني، إلا أنّني "كبَّرت راسي"، ولم أسمع النصيحة المغرِضة.

يتم جمع ما تبقى من "الشنينة"، ويوضع على النار إلى أن "تُقرَّش"، وتنفصل حبيبات الدهون عن المصل. وتوضَع في كيس قماشي، ثم يُعلّق على "الساموك"، وهو عمود البيت، أو أحد أعمدته، ويكون تحته إناء، تتساقط داخله نقاط الماء، ويبقى هكذا إلى أن يجفّ تماماً، قبل الانتقال إلى العمليّة التالية في تصنيع الشنكليش. أما المصل، فيتم الاحتفاظ به أحياناً للاستخدام من قبل الصبايا اللاتي يردْن تطويل شعورهن وتقويتها، أو من قبل الرجال الذين بدأ شعرهم بالتساقط واتسعت مساحة صلعتهم. كل ذلك، قبل مكاسب الحضارة الحديثة وانتشار زراعة الشَعر الحلال في تركيا، فأنا أصف ما أعرفه في خمسينيات القرن الماضي.

يتحوَّل ما في الكيس القماشي، إلى مادة متماسكة اسمها "قريشة". تقوم النساء، بعد تمليحها وإضافة بعض البهارات المتواضعة إليها، بتحويلها إلى أقراص تشبه الكرات، ثم تنشر على الأسطح في الشمس. وُيقال إن أطيب أنواع الشنكليش هو الذي يجفف في "الكرينات"، وهي عبارة عن صينيات مصنوعة من روث الحيوانات ومجففة بالشمس طبيعياً، دون أي تدخل صناعي، أو مواد كيميائية، وأصل صناعتها كانت لخدمة دودة الحرير، في أحد مراحل نموها. وبما أن "الحاجة أم الاختراع"، فقد وجد لها الفلاحون في منطقتنا (مصياف وتوابعها) استخدامات أخرى؛ فهي أفضل وأنظف من السطوح الترابية لتجفيف بعض المواد الغذائية، مثل القريشة والتين والعنب والبرغل المجروش، وغير ذلك، كما أنّها مادة هامة للتدفئة في الشتاء، أو لإشعال التنانير لخبز العجين.

بعد أن تتأكد النسوة من جفاف قرص القريشة، يتم وضعها في جرار فخارية وإغلاق فتحاتها بإحكام لأمد محدد. يتم تقدير الفترة الكافية كي تتعفن وتنضج الأقراص، وبذلك تصبح شنكليشًا ممتازاً، وأطيب من جبنة "روكفور" الفرنسية الشهيرة.

طبعاً، مع الزمن، وانتشار الرفاهية في عصر آل الأسد. تم تعديل بعض مراحل صناعة الشنكليش الوطني لتتناسب مع مرحلتي الصمود والتصدي، من جهة، وضرورات العولمة الاقتصادية من جهة ثانية. فاعذروني إذا كان عند بعضكم تصور آخر لصناعة الشنكليش. وهذا على كل حال ما حصل معي شخصياً عام 1999 عندما ذهبت في زيارة إلى أخي وابن عمي المقيمين في جزيرة غوادلوب الفرنسية، في البحر الكاريبي.

ابن عمي عصام، رحمه الله، كان معروفاً في الجزيرة بأنه أفضل من يتكلم "الكريول"، لغة السكان السود، بين العرب، ليس فقط لذكائه وسرعة بديهته، وإنما لأنه تعلم اللغة من الشوارع والخمارات ومع الصبايا وفي المطاعم الشعبية، وأحياناً بسبب تشرده الطويل، قبل أن "يعقل" ويهديه الله، فيتزوج فتاة جزائرية صالحة، جعلت منه رجل أعمال، ووجيهاً من وجهاء السوريين في غوادلوب، بذكائها ولطفها. وكان قد تعرف عليها، في إحدى سفراته إلى باريس، فتزوّجا وعادا إلى الجزيرة. ولما كانت زوجته، قد تعرفت على وسط السوريين المتحدرين بأغلبيتهم الساحقة من وادي النصارى، حيث ينتشر الشنكليش بينهم كانتشار المخدرات بين الشباب المعاصر، يتم تداوله بحرص شديد وسرية، ويهديه القادم حديثاً من سورية إلى وجهاء الجالية السورية بهدف التقرب، ونسج علاقات متميزة معهم.

في هذا الجو المشحون شنكليشياً، قررت زوجة ابن عمي الجزائرية الأصل، الباريسية العيش، أن تدلل زوجها العائد من العمل، بعد نهار متعب وكانت قد جهزت له عشاء طيباً، وكان قد أحضر معه، قرصين من الشنكليش، وصلاه من مهاجر جديد قادم من حمص، فطلب منها تقطيعهما ووضع بعض الزيت والبصل عليهما، ففعلت ما طلب. وعندما جلسا وتذوق ابن عمي الشنكليش بدأ يكيل المديح لهذا النوع الفاخر، عندما سألته زوجته العروس: حبيبي، فيك تقول لي من أين نحضّر الشنكليش؟

نظر عصام في عيني زوجته ليعرف هل تسخر منه، ولما تأكد من جدية السؤال، قال لها: "في حدا في العالم ما بيعرف كيف بينعمل الشنكليش يا حبيبتي، نزرعه زراعة، وهو شجر مثل شجر التين، ولكن بدل شموط التين نجد قرص الشنكليش مغلفاً بورق الشجرة، فنقطفه ونضعه على الطاولة".

كان يمكن للمزحة أن تنتهي هنا، ولكن حدث أن أحد الوجهاء السوريين قد دعا العريسين للاحتفال بهما، ودعا بالمناسبة، مجموعة من العائلات السورية. وعندما جلسوا حول الطاولة شاهدت الزوجة الجزائرية أنواعا وألوانا جديدة من الشنكليش لم ترها في بيتها، وسمعت صاحبة البيت تقول إنهم حضّروا مونتهم من الشنكليش هنا. فاستغربت زوجة ابن عمي، وسألت: "هل نجحتم في زراعة شجرة الشنكليش هنا؟"


فتدخّل بسرعة ابن عمي، وصحّح معلومات زوجته، وعرف الجميع أسلوب عصام في التندّر والفكاهة.

65BA1F44-59A2-4240-B737-8FB8776C9F64
65BA1F44-59A2-4240-B737-8FB8776C9F64
ميخائيل سعد
ميخائيل سعد

مدونات أخرى