يوجينيا سيسية تكتم أنفاس مصر البهية
سليمان موسى باكثير
على خطى أفلاطون، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جمهوريته الجديدة، وانتقى لها من يتمتعون بالصحة والرفاه والثروة. وإذا كان أفلاطون، أول اليوجينيين في التاريخ، حيث تخيّل (مجرد تخيّل) جمهورية أو مدينة فاضلة، يتمتع فيها الفلاسفة والمفكرون بالذكاء والصحة، ويشغلون أعلى المراتب الاجتماعية ويديرون شؤون الحكم، فإن أفكار السيسي بدورها كانت مجرّد أفكار تحوم برأس صاحبها وتداعب مخيلته، مترجماً أفكاره ورؤيته عن مصر وشعبها على أرض الواقع، فهل ينطوي وحيه على غربالٍ بشري يُفلتر الناس حسب العرض والطلب؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هي الأسس التي أقام بموجبها غرباله؟ لأنّ الأمر لم يعد يقتصر على جيل أو جيلين على حدّ قوله: "مفيش مشكلة نضحي بجيل أو جيلين عشان الأجيال القادمة"، فعن أيّة أجيال قادمة يتحدث إذن؟
اليوجينيا، يا سادة يا كرام، هي علم التحكّم في النسل لضبط معدلات المواليد وتحسين الصفات الوراثية عبر الانتقاء أو الانتخاب الصناعي الموّجه. وقد عُرفت اليوجينيا كعلم لأول مرّة على يد الفيزيولوجي البريطاني فرنسيس غالتون، أواسط القرن التاسع عشر، الذي وضع أسس تحسين النسل العلمي وكانت غايته منع تكاثر البشر ذوي "النوعية الأدنى" وتنشيط تكاثر أصحاب "النوعية الأفضل"، أي شيء شبيه بفكرة العرق الآري التي حاول تطبيقها المستشار الألماني النازي أدولف هتلر. ويشبه الأمر أيضاً صندوق دعم الأسرة، وهو من بنات أفكار الرئيس المصري لتحسين العرق، والبعض يربطها بروافد الفاشية والنازية وممارسات أخرى مرتبطة بالإبادات الجماعية ونظم الأبارتهايد والتصفية العرقية للفئات الاجتماعية غير المرغوبة.
ظهرت اليوجينيا المصرية الحديثة منذ عشرة أعوام تقريباً بتصفية سياسية واجتماعية، مادية ومعنوية، لفئة بعينها، وانتشرت العدوى لتشمل فئات أخرى. ومع مرور الوقت، صار الحبل على الجرار، واتسعت رقعة العدوى لتطاول الغالبية العظمى من الشعب، الذي يصارع اليوم في معركة الأمعاء الخاوية، والتي يعرفها جيداً الأسرى الفلسطينيون وسجناء الرأي في مصر. هذا كله يحدث، بسبب من الظروف الاقتصادية بالغة الصعوبة، وتدني قيمة العملة التي ربّما تصير أشبه بورق التواليت، بعدما فقدت مائة في المائة من قيمتها و"الحبل على الجرار" كما يقال.
حالة من التيه وغياب الأمل، وسعي حثيث خلف لقمة العيش
"عض يدي ولا تعض رغيفي"، ويقول آخر: "عض قلبي ولا تعض رغيفي"، ولهذا، فإن الرغيف مقدّم على كلّ ما هو دونه، فلربما يثور المرء إذا لم يجد ما يسدّ به رمقه من الخبز، بينما يبقى ساكناً صامتاً صبوراً في حال انتُهكت كرامته النفسية والجسدية، ما دام يجد ما يملأ به فم ذئب الجوع.
تحت طائلة اليأس والفقر والجوع وعدم توفر الخبز، وجدت النساء الفرنسيات أنفسهن تلقائياً ينظمن مسيرة إلى قصر فرساي، حدث ذلك في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1789، وكان الزحف النسوي إلى فرساي أحد أهم الأحداث التي أثرت في الثورة الفرنسية، جنباً إلى جنب مع سقوط سجن الباستيل، فإذا كانت بلادنا هشّة لا تحتمل مزيداً من الفوضى والشغب، فهل اتعظنا من التاريخ؟ والحال الراهن لا يختلف كثيراً، من حيث تدّني الحالة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي النفسية، فهل ستتحمل النساء وأولادهن الجوع؟!
هو إذن عصر الجري وراء لقمة العيش، أو كما قالت الرائعة مي زيادة مخاطبة طفلاً على فخذها: "غداً تكبر وتضنيك المسؤولية". وكثيراً ما أسمع شباباً تتراوح أعمارهم بين نهاية العشرين وبداية الثلاثين: "لا أدري ماذا حدث لي في آخر خمس أو ست سنوات من عمري".
فعلياً حالة من التيه وغياب الأمل، سعي حثيث خلف لقمة العيش لساعاتٍ قد تمتد بين الاثنتي عشرة والثماني عشرة ساعة، فتشابهت أيام المرء كلها، وربما امتزجت وصارت يوماً واحداً. سمعت قائلاً يقول: "وسط هذه الفوضى التي لا بأس بها سوف يخرج عدد من العباقرة والمجانين". إذن ماذا سيُخرج لنا الغربال البشري الذي صمّمه الرئيس المصري، وحالة الفوضى والتيه الشعبي؟