عن رفاق الجامعة وأشياء أخرى
سليمان موسى باكثير
كان موسى ملتزماً بمحاضراته في الكلية، لا يفوته منها شيء، مواظباً على التحصيل أولاً بأول، فالأمر بالنسبة له لا يقتصر على اجتهاد دراسي بحت، لكن طبيعة الدراسة، والتي جُلّها تعاملات رقمية، تثير شغفه وقريحته، فلا يعاني عناء استيعاب وفهم، وعلى رأي القائل: "يا بخت اللي شغلته موهبته".
قضى صديقه الصدوق، محمود البغدادي، أيامه في الحرم الجامعي، وكلهم سنتين لا غير، متسكعاً بين الحشيش والبنات، وفي أوقات فراغه يلتقي بعض الشبان خلف مبنى الكلية في مكان شهير يدعى "تحت الكوبري...غرزة غير مقننة"، يتناوبون الكيف بينهم. وحين يرتقي رأسه عنان السحاب، يكون قد أزف موعد من مواعيده الغرامية مع إحدى الفتيات المتعثرات في فلكه، المسحورات بخفة ظلّه ولباقته الإقدامية المقتحمة، العدوانية أحياناً. لم يكن يبخل عليهن بوقت لطيف، يشبع خلاله عواطفهن المحرومة، يصب كلاماً معسولاً وغراماً ملتهباً، ينطفئ بالأحضان والقُبل. ينهي يومه بمهاتفة موسى ليسأله إذا كان قد انتهى من محاضراته العبثية التي لا جدوى منها، للعودة إلى الديار غانمين، موسى بمحصلته الدراسية، وهو بدك حصون الحياة العصية وسبر أغوارها العميقة، دون أن يورط نفسه في الوحل، يحوم حوله ولا يغرس فيه.
كان يوماً عاصفاً، أو بقول آخر، كان من المرّات القليلة التي ترى فيها موسى خارج المدى الطيفي لأطواره الاعتيادية. كان قد أنهى امتحانه في مادة محاسبة الشركات مكدور البال والحال، بعد أن وضع الدكتور مسألتين في الامتحان خارج نطاق المنهج المحدّد. ولما هاج الطلاب وماجوا، رفض رفضاً قاطعاً أن يحذفهما، على خلفية ورود فكرتهما في المحاضرات الأخيرة له. لكن المشكلة ليست هنا، إنما تكمن في التشويش المفروض عليه من قبل صديقيه، محمود البغدادي ومجدي الصاوي. البغدادي حاله "يا مولاي كما خلقتني"، عارٍ تماماً من أية معلومة أو فكرة يُلقح بها ورقته، ولم يكن كعادته، ينقل الإجابة من ورقة موسى في هدوء وصمت دون أن يلفت إليه أحدا. اليوم اختلف الأمر، إذ يلحّ على موسى أن يملّيه لأنه لا يفهم شيئاً مما يكتبه، ومع اشتداد إلحاحه، تنهّد موسى بعصبية وزفر بشدة وقال، خاسفاً رأسه وشبه مغمض العينين: "إنت شارب إيه عالصبح عايز اعرف، انت لو عامل دماغ بانجو مش هتبقى غبي كدا، هيبقى انت والحمار التاني اللي جنبي".
حين جاء دوره لرد الجميل، تنكّر لولي نعمته ولسان حاله يقول: "إنما أوتيته على علم عندي وكد وتعب مني فحسب"!
أخذ محمود الإهانة على صدره وطبقت على كرامته، خاصة أنّ التعامل، من حيث اللهجة وطبيعة الكلام، فيما بينهما يختلف كلية عنه أمام الآخرين، فما كان منه إلا أن سلّم ورقته بعد خمس دقائق من تعرّضه للإهانة، ولم يكن قد مرّ أكثر من نصف الوقت المخصّص للامتحان، وقدره نصف ساعة، ثم مضى إلى حال سبيله.
أما مجدي الصاوي، والذي مسته إهانة عابرة من موسى في الموقف الحاصل آنفاً، فهو رفيقه شبه الدائم في المحاضرات، جمعتهما زمالة في المدرسة الثانوية، مجرّد زمالة، لكنها تطوّرت مع الدراسة الجامعية. مقوماته كلها تتلخص في لقبه "الأجنبي"، أو كما يناديه البغدادي: "مجدي يا مجدي... يا أجنبي يا متني"، وجهه أشقر مستدير، ممتلئ الوجنات، أملس إلا من شعر رأسه الأصفر، لا هو كثيف ولا هو خفيف، عيونه خضراء واسعة جاحظة، قامته في منطقة وسطية بين طول موسى والبغدادي، وجسده يميل إلى البدانة في مناطق وإلى النحافة في أخرى، الرياضيات عدوه اللدود، ويغرق في أتفه المسائل الحسابية مستغيثاً بآلته الحاسبة.
موسى ملاذه الأول والأخير، فهو لا يفهم المسائل من أوّل مرّة، ولا حتى من المرّة الثانية، وإذا فهم فحتماً سينسى، وقد دخل كلية التجارة مدفوعاً دفعاً من قبل أهله، لأنّ لديه قريباً من الدرجة الأولى يعمل موظفاً كبيراً في أحد البنوك، وسيضمن له وظيفة محترمة تؤمّن له مستقبله في زمن لا يعرف له أحد "وش من قفا"، فلا تدري إذا كان مقبلاً عليك أم مولياً الأدبار مُعرضاً عنك.
عاش مجدي سنواته الجامعية الأربع في كنف موسى، ومن حسن حظه، أنّ اسميهما يبدآن بحرف الميم، فجاء ترتيبه قبالته في لجنة الامتحانات النهائية، ليكون لموسى نصيب الأسد في نجاحه وخروجه من الكلية بتقدير عام، جيد مرتفع، فيجد نفسه بعد التخرج مباشرة، محاسباً بنكياً، ناسياً ومتناسياً، كيف كان يتمسّح بموسى، مسترضيا له بكافة السبل والطرق، وهو الأمر الذي لم ينطل على موسى، لكنه تعامل معه بطيب خاطر، والتمس له بعضاً من الأعذار. وحين جاء دوره لرد الجميل، تنكّر لولي نعمته ولسان حاله: "إنما أوتيته على علم عندي وكد وتعب مني فحسب"...
وللحكاية ضفائر أخرى.