وصايا الراحلين في السابع من أكتوبر
مرّ عامٌ كاملٌ منذ أن بدأت هذه المذبحة المستمرة بحقِّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، المذبحة التي باركها العالم ولم يحرّك ساكنًا لإيقافها، حتى ولو ليومٍ واحد. مذبحة لم تقتصر على حدودِ القطاع الذبيح، بل اتسعت لتطاولَ لبنان، حيث لم تميّز قذائف العدوان الصهيوغربي بين حجرٍ أو بشر.
365 يومًا عاشها العالم بعيونٍ مُغلقة وآذانٍ صمّاء، بينما يكتوي أهل قطاع غزّة في قلب النار تحت القصف، يُعانون ويلات حصار القريب قبل البعيد. 365 يوما، مرّ كلّ يومٍ فيها كألف سنة على من كانوا هناك، على من تُرِكوا وحدهم عُزّلاً، يواجهون مصيرهم بصدورٍ عاريةٍ وأيد خاليةٍ إلا من إرادةٍ صلبة وعزم لا يلين، وكأنّهم خُلقوا في عالمٍ آخر من طينةٍ لا يشبهها شيء.
سنة من التنكيل والتجويع والترهيب، ولا تزال المدافع تزمجر. 365 يومًا من الموت البطيء على مرأى من العالم الذي ترك أكثر من مليوني غزّي لمصيرهم في مواجهة آلة القتل الصهيوغربية، وكأنّهم وحدهم في هذه المعركة، وكأنّهم هم فقط من كُتِب عليهم خوض الصراع ضدّ هذا الوحش البربري دون أيّ سند. ولكن الحقيقة أنَّنا نحن من وقفنا نشاهد المذبحة عُراةً، بعد أن سقطت آخر ورقة توتٍ كانت تغطّي ما تبقى من عوراتِ الإنسانيّة المهترئة.
أعلم جيّدًا أنَّ هناك من حاولوا أن يصنعوا فارقًا؛ تظاهروا واحتجّوا ونزلوا إلى الشوارع في مدنٍ بعيدة عن ساحاتِ الصراع، حناجرهم صرخت بما استطاعت من قوَّة، وثّقوا الجرائم، لاحقوا الجلادين في محاكم بلا سلطة، تبرّعوا وتطوّعوا، كتبوا وصوّروا ونشروا، بل وبعضهم أقدم على التضحية القصوى، فأحرقوا أنفسهم احتجاجًا على هذا الظلم المستمر. لكنَّ العالم أدار ظهره لهؤلاء جميعًا، كما أدار ظهره لأصوات الضحايا طيلة 76 عامًا مضت.
سقطت آخر ورقة توتٍ كانت تغطّي ما تبقى من عوراتِ الإنسانيّة المهترئة
في مثل هذا اليوم، لن يكون هناك صوت يُسمع أصدق من أصوات من رابطوا على الثغور، وفقدوا أحبّتهم، وتعرّضوا للحصار، وبذلوا الغالي والنفيس في صمودهم الأسطوري. هؤلاء وحدهم من يمتلكون الحقّ في رواية القِصّة كما يرونها، وأن يتحدّثوا عن آلامهم وآمالهم، عن أحلامهم ووصاياهم، عن صمودهم الذي تجاوز حدود الصبر الإنساني.
لو كان بمقدور أكثر من 42,000 ضحية بريئة في غزّة أن يتحدّثوا اليوم، ماذا كانت ستكون وصيتهم؟ هل كانوا سيوصون بأن لا تُنسى قِصصهم، وأن تُحكى معاناتهم وآلامهم التي عانوها تحت الأنقاض، وفي ظلماتِ الليل الحالك تحت القصف؟ هل كانوا سيوصون بأن يكون دمهم الذي سال عبر عقودٍ من الزمن صرخةً تهزّ ضمائر العالم، أو ما تبقّى منها، ليطالبوا بالعدالة والحريّة ووقف هذه المذابح المستمرّة؟ هل كانوا سيوصون بأن يُرفع صوت الحقِّ ويُكشف ظلم المحتل، فلا يُطمس الحقّ ولا يسكت العالم على جرائم هذا المحتل الذي لم يكتفِ بما اقترفه على مدى العقود الطويلة، بل زاد من بطشه بحصارٍ وتجويع وقتل الملايين بلا توقّف ودون هوادة؟
لعلهم كانوا سيقولون: احملوا الراية. لا تتركوها تسقط تحت وطأة الظلم. كونوا شهداء على صمودنا، وكونوا منارةً تُضيء دروب الأمل في غدٍ أفضل، غدٍ لا مكان فيه للقهر ولا لظلم المحتل وزبانيته. هذا إن تبقى أحياء خارج حدود قطاع غزّة وثغور المقاومة ما زالوا قادرين على حمل تلك الراية.
قطاع غزّة عنوان للإرادة الحرّة التي لا تموت، حتى في أحلك الظروف وأقسى الأوقات
وربّما كانت الأمهات الثكالى سيتركن وصاياهنّ لبناتهنّ، ليكنّ أقوى، ليحملن الإرث ويعلمن الأجيال القادمة أنَّ الصمود ليس خيارًا بل واجب، وأنَّ القضية أكبر من حياة الفرد، وأنَّ الوطن يستحق كلّ التضحيات مهما كانت ومهما بلغ خذلان الإخوة. لربّما سيُوصين الأبناء ألّا ينسوا الآباء والإخوة الذين رحلوا، والأصدقاء الذين ودّعوا الحياة تحت ركام البيوت المدمّرة، وأن يظلّوا متمسّكين بحقِّ العودة، بالبيوت التي هُدمت، والشوارع التي سُويّت بالأرض ولكنها ما زالت تعبق بعطر الأحبة الراحلين والذكريات.
أمّ لعلهم سيتجاهلون الأحياء الأموات على هذه الأرض، وسيوصون أهل قطاع غزّة، ومن ساندهم حقًا، فقط بألّا يتوقفوا. بأن يحفظوا شعلة الكرامة متقدة، وألّا يقبلوا أن يكونوا مجرّد أرقام في نشرات الأخبار، بل رمزًا للمقاومة، وأن يسطّروا بصمودهم الأسطوري آخر عنوان للإرادة الحرّة التي لا تموت، حتى في أحلك الظروف وأقسى الأوقات.
إلى أن يأتي اليوم الذي تستعيد فيه الضحايا أصواتها سنبقى نحن صوتكم، فسلام على قطاع غزّة، سلام على أهله الصامدين، طبتم أحياءً وشهداء، يا من حطّمتم جدران الخوف، وأسقطتم رهبة الظلم، وأثبتّم أنّ إرادة الحياة أقوى من طغيان القهر، وسلام على لبنان وأهله، وكلّ المعذبين في هذه الأرض.