الفكرة لا تموت بموت حاملها
غسان كنفاني، كمال عدوان، كمال ناصر، خليل الوزير، ناجي العلي، صلاح خلف، عماد عقل، فتحي الشقاقي، يحيى عياش، أبو علي مصطفى، أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي، إسماعيل هنيّة رحمهم الله جميعًا، قائمة تطول من المفكرين والقياديين الشهداء الذين اغتالهم الإرهاب الصهيوني وأذنابه منذ سبعينيات القرن الماضي، ومع ذلك، فإنّ هذه السياسة الإرهابيّة الرعناء لم تسهم إلّا في صبِّ المزيد من الزيت على نيران الثورة والتحرّر من الاحتلال وداعميه، ففكرة الحريّة والتحرّر متأصّلة في الوعي الإنساني، ولا يمكن أن تنطفئ بموتِ الأفراد، بل تتطوّر هذه الروح من خلال النضال، وكلّ تكرار للمقاومة يبني على التكرار السابق. والواقع أنّ الأيديولوجيات تتجاوز الأفراد وتزداد قوّة من خلال استمرار المقاومة بكافة أشكالها، بحيث يصبح التحرّر هو النتيجة الحتميّة لنهاية الصراع.
ففي حين يروّج الصهاينة والمتصهينين ثقافة الانهزام والانبطاح والتطبيع لإدامة سيطرتهم، ويحاولون تثبيت فكرةَ عبثيّةِ جميع أنواع المقاومة، من خلال السرديّات الزائفة والبطش والقوّة الغاشمة، ومن ثمّ تصفية حاملي الشعلة جسديًا لترسيخ فكرة الهزيمة الحتميّة في النفوس التوّاقة للتحرّر، فإنّ الأفكار المضادة لمحاولات الهيمنة هذه ستُعاود الإنبعاث والنهوض دائمًا وأبدًا ضدّ السرديات القمعيّة والانهزاميّة، وستكتسب مزيدًا من القوّة والزخم، خاصّة عندما يجرى قمع حاملي هذه الأفكار المُحقّة. فلقد أثبت التاريخ مرارًا وتكرارًا أنّ اغتيال القادة والمفكرين الأفراد الحاملين هذه الأفكار سيؤدّي إلى نتائج عكسيّة، وسيجعل منهم أيقونات يحلم الآلاف من عشّاق الحريّة حول العالم بالسير على خطاهم وحمل الشعلة من بعدهم، لأنّه يكشف عن قسوة المستبد ويحفّز الوعي الجماعي بين الجماهير التي لا ترث الفكرة فحسب بل تعزّزها.
فشوق الإنسان للتحرّر وفكرة الحريّة ستجد دائمًا وسيلة للانتقال عبر الأجيال والمحافظة على نفسها، وستتكرّر وتتحوّل وتتطوّر عبر هذه الأجيال. حتى لو أُسكت صاحب الفكرة الأصلي، أو أحد أبرز حامليها والمدافعين عنها، فإنّ الفكرة نفسها تبقى على قيد الحياة من خلال نقلها إلى الآخرين، وخصوصًا مع كمّ القنوات والوسائل المعرفيّة الهائل الذي نحظى به في يومنا هذا.
فكرة الحريّة والتحرّر متأصّلة في الوعي الإنساني، ولا يمكن أن تنطفئ بموتِ الأفراد
وهنا، لربما علينا أن ننتبه إلى إشاراتِ المفكر فزانز فانون إلى أنّ عملية إنهاء الاستعمار والتحرّر غير مقصورة على الطرد المادي للمستعمر أو المحتل، بل هي أيضًا استعادة نفسيّة وثقافيّة للهُويّة والقدرة على التصرّف والحق في تقرير المصير. وبالتالي، عندما يُغتال قادة أو حاملو فكرة التحرير، فإنّ هذا لا يضعف النضال بل يزيده قوّة، لأنّ الفعل العنيف ضدّهم يثبت الحاجة إلى المقاومة والتحرّر، وسيساعد الكثيرين ممّن ما زالوا متسمرين على الأعراف على حسم أمرهم والإنحياز للحقِّ والحريّة، على عكس ما يتأمّل المستبد وأذنابه من أنّ الإرهاب الصهيوني سيخمد جذوة التحرّر.
بالتأكيد، لا نستطيع المكابرة وعدم الاعتراف أنّه بخسارة القادة والمفكرين، تخسر حركات التحرّر جزءًا لا يمكن استبداله من منظومتها، وتتلقى ضربةً مُوجعةً مع كلّ فقد، وعلى الرغم من ذلك تستمر الأفكار النابعة من السعي المستمر نحو العدالة والتحرير، في إيجاد طريقها إلى الفضاء العام من خلال التواصل والتفاعل، وبالتالي لا يؤدّي قمع أو قتل الأفراد الذين يروّجون مثل هذه الأفكار إلّا إلى تعطيل عمليّة التواصل مؤقتًا، ولكن إسكاتهم بطريقةٍ بشعة يحفّز النقاش والحوار والبحث المعرفي لدى جموع متلقي الخبر، ومع الوقت، يجرى استيعاب المبادئ الأساسيّة وحجج التحرير ومناقشتها وتكرارها في الفضاء العام، ما يسمح لهذه الأفكار بالاستمرار والترسّخ والتكيّف مع السياقاتِ الجديدة، وبالتأكيد، ستجد حاملي شعلة جدداً أكثر شراسةً وتصميمًا على التحرّر.