وردة على ضريح الأخوين رحباني
الرسائل العديدة التي وصلتني أخيراً، تسألني (بوصفي مستشارة إعلامية سابقة للسيدة فيروز) عن صحة الخبر المتداول يومها حول اعتذار "الست" عن تلبية دعوة دائرة الترفيه السعودية للغناء، و/ أو تلّقي تكريمها على الأقل في المملكة، ذكرتني برسائل أخرى كنت قد تلقيتها منذ أسابيع، ترافقت مع تداول الناشطين على منصّات وسائل التواصل الاجتماعي أغنية غير معروفة للسيدة بعنوان "سافرت القضية" تحت عنوان أنّها لفلسطين، وأنّها كانت ممنوعة.
وبما أنّ الإحاطة بالأرشيف الهائل لفيروز والأخوين رحباني غير ممكنة إلّا بالكاد للباحثين والمتابعين الدؤوبين، وهذا لم يكن وضعي، لذا فعليًا، لم أكن قد سمعت بهذه الأغنية بتاتاً، فضلًا عن رواية منعها.
لا بل إنّي حين قرأت كلماتها المباشرة والأقرب إلى الحوارات المسرحية خمنت أمرًا من اثنين في سبب عدم تداولها ومباشرتها: فإمّا أنّها ولدت في لحظة انفعال استعجل الأخوان التعبير عنها، وهذا معقول إن كانت قد وُلدت حين قُدّمت بعد النكسة في دمشق العام 1968 قبل عرض مسرحية "الشخص"، أو، وهذا أيضا ممكن، أنّها بدت ظرفية قصيرة العمر بسبب ذلك، مقارنة بنتاج الأخوين رحباني الاستثنائي اللاحق عن القضية الفلسطينية، والذي لا يموت. ولذا، قد تكون الأغنية قد خرجت من التداول بنوع من "الانتقاء الطبيعي" لصالح مؤلفات أبلغ شعرياً وموسيقياً كما في أغاني "بيسان" أو "زهرة المدائن"، وعموماً ألبومات "راجعون" و"القدس في البال"، خصوصاً أنّ الأغاني التي كانت تُبّث قبل التطوّر التكنولوجي الحالي كانت محصورة بالإذاعات، ولاحقًا عبر شرائط الكاسيت، ما يجعل الاستفتاء الجماهيري على نجاحها غير ممكن كونها لم تطبع على أسطوانة. وبهذا يكون خيار بثّها محصوراً بالقلّة التي كانت تقرّر ما الذي تجب إذاعته، وهنا تدخل الخيارات السياسية، خاصة في لبنان، إلى جانب الاعتبارات الفنية.
قد تكون أغنية "سافرت القضية" خرجت من التداول بنوع من "الانتقاء الطبيعي" لصالح مؤلفات أبلغ شعرياً وموسيقياً
لكن، هناك أيضاً من يروي أنّها غُنّيت في العام 1955، وهذا أيضاً معقول. فإثر النكبة طال انتظار العالم العربي لردّ فعل المحافل الدولية كما اليوم، دون أن يشفي غليله موقف حاسم. وهذا ما يفسّر تطابق ظرف ولادتها مع ظرفنا حالياً حيث ننتظر ردّ فعل على حرب الإبادة الراهنة دون أن يحدث موقف يلبي انتظاراتنا، فكانت الأغنية تحكي بصدق وبسخرية لا تُخفى، عن خيبة الأمل بالمجتمع الدولي وقيمه التي كان يتشدّق بها، ولا يزال.
يبقى السؤال المهم: لم طفت هذه الأغنية على السطح بعد اختفائها لأكثر من نصف قرن من البث؟ هل لأنّ الظرف مشابه كما سبق واستنتجت؟ أم لأنّ إشاعة منعها أثارت فضول الجمهور؟ أم أنّ هناك سبباً آخر؟
أعتقد أنّ سبب عودة الأغنية للتداول، هو بالضبط كلامها السياسي المباشر الذي كان برأيي، مسؤولًا عن اختفائها. تقول الأغنية بسخرية تشوبها مرارة، وعلى لحن يشبه المارش العسكري:
سافرت القضية
تعرض شكواها في ردهة المحاكم الدولية
وكانت الجمعية
قد خصّصت الجلسة للبحث في قضية القضية
وجاء مندوبون عن سائر الأمم
جاؤوا من الأمم
من دول الشمال والجنوب والدول الصغيرة والدول الكبيرة
واستمع الجميع إلى اللجنة الرسمية
وخطب الأمين العام حكى عن السلام
وبحث الأعضاء الموضوع وطرح المشروع
عدالة القضية، حرية الشعوب، كرامة الإنسان، وشرعة الحقوق، وقف إطلاق النار، إنهاء النزاع، التصويت، التصريحات، البت في المشاكل المعلقة، الإجماع
وحرصت مصادر موثوقة نقلاً عن المراجع المطلعة
ودرست الهيئة، وارتأت الهيئة، وقررت الهيئة
إرسال مبعوث وصرّح المبعوث بأنه مبعوث من قبل المصادر
وأنّ حلاً ما في طريق الحل
وحين جاء الليل كان القضاة قد تعبوا
أتعبهم طول النقاش
فأغلقوا الدفاتر وذهبوا للنوم
وكان في الخارج صوت شتاء وظلام
وبائسون يبحثون عن سلام، والجوع في ملاجئ المشردين ينام، وكانت الرياح ما تزال تقتلع الخيام.
الأغنية تحكي بصدق وبسخرية لا تُخفى، عن خيبة الأمل بالمجتمع الدولي وقيمه التي كان يتشدّق بها، ولا يزال
ترسم هذه الكلمات حالنا اليوم أمام حدث غزّة الرهيب، وتكاد تنطق ببساطتها ولا شعريتها (دون السطور الأخيرة) بقرفِ كلّ إنسان أمام ما يحصل علناً، وبكلّ وقاحة ووحشية دون ردّة فعل على مقاس الحدث من العالم. هكذا، تبدو الدول والمؤسسات الأممية تتحرّك ببطءٍ مماطل، كتلميذٍ كسول، لا يملك أمام سؤال الأستاذ إلّا تضييع الوقت حتى ينجده رنين جرس انتهاء الفصل. لكن الجرس لا يرن وهو لا يجيب.
أعاد النقاش حول الأغنية التذكير بقيمة الأخوين رحباني السياسية، وهي ناحية قلّما يتم التطرّق إليها. فانتماؤهما الأيديولوجي، ولو لم يكن صريحاً بالمعنى الحزبي، إلّا أنّه لم يكن متوافقاً في أغلب الأوقات مع رغبات أصحاب السلطة، وهذا ليس سرّاً. فقصة عداء الرئيس اللبناني الراحل، شارل حلو، للأخوين وفيروز، حين كانوا يرفضون الغناء لرؤساء دول مثل التونسي الحبيب بورقيبة، لدرجة منع أغانيهما في الإذاعة اللبنانية لفترة، معروف للمتابعين. كما هو معروف عداء رئيس جمهورية لبناني راحل آخر هو، سليمان فرنجية، لهما ولفيروز، بعد أغنية "ليالي الشمال الحزينة"، التي اعتبرها، لسببٍ ما، موّجهة ضده كونه من محافظة الشمال!
وفي بلد طائفي كلبنان، فإنّ الانتماء المختلط القومي/ العروبي للأخوين، وبعدهما اليساري الإنساني لزياد الرحباني، كان دائماً موجباً لامتعاضِ يمينٍ مسيحي لبناني يعتبر في وعيه الطائفي أنّ كلّ مسيحي هو ملك لطائفته، وبالتالي عليه اتباع انتمائها السياسي. لكنه امتعاض مكتوم إلى حدٍّ ما وينازعه الفخر بهم، انطلاقًا بالتحديد من زاوية الانتماء الطائفي.
ما حمى الثلاثي المبدع هو، إضافة إلى حال العالم العربي المختلف بالمعنى الإيجابي في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي عن حاله اليوم، قيمة فنهم لدى جمهورهم العريض. وهو جمهور أعطاه الأخوان وفيروز الأولوية على حكامه مهما كانوا أقوياء، فناصروا قضاياه/ قضاياهم التحرّرية من الاستعمار والظلم والفساد، إن كان في الجزائر أو في فلسطين أو بقية العالم، وهو، أي الجمهور، ردّ جميلهم بالتفاني في المحبة.
لا أحد، وأنا أجزم، وبكلّ ثقة، أن لا أحد أعطى قضية فلسطين ما أغدقه عليها الأخوان رحباني وفيروز، منذ النكبة. أو لربّما ما كان عليّ أن استخدم مفردة أعطى، فمن يعطي يكن خارج كينونة المعطى له، وهذا لم يكن حال الأخوين، ولا حال فيروز.
لذا، وبعد كلّ هذه السنين التي مرّت على أغانيهما الوطنية، ما زالت تلك الأغاني المعبّر الأرقى والأقوى عن وعينا، نعود إليها حين يعجز اللسان عن التعبير، فنستعير بلاغتهما لنتعزّى على الأقل بالقدرة على البوح الفصيح والجميل بلسانهما وصوت فيروز.
لذا، فلنرمِ اليوم بوردة على ضريحهما لشكر لن نمل من تكراره مهما طالت الأيام.