هنيبعل وفقاً لنتنياهو
كاد الخبر يكون مضحكاً: "إسرائيل تفتش عن مكان دفن جاسوسها إيليا كوهين، الذي أعدمته السلطات السورية في العام 1965 في ساحة المرجة في العاصمة السورية وتريد من يدلها على مكان دفنه لاسترداد رفاته". أمّا لماذا يكون الخبر مضحكاً؟ فكونه ينتمي إلى إسرائيل أخرى كانت موجودة قبل السابع من أكتوبر/ تشرين أوّل العام الماضي، وعلى وجه الدقة، قبل وصول نتنياهو، خاصّة بنسخته الأخيرة مع حكومته المتطرّفة إلى الحكم.
فكيف لمن يُهمل المئات من أسراه في غزة لأكثر من أربعة عشر شهراً، ولمن تجاهل وما زال نداءات أهالي هؤلاء الأسرى الذين لم يملوا من الاحتجاج بمختلف الأشكال طوال تلك المدّة، أن يطالب برفاتِ جاسوس، مات وشبع موتاً منذ ما يقارب ستة عقود، وأصبحت "عظامه مكاحل" كما يُقال في الدارجة العامية؟
هذا النوع من المُطالبات الذي كانت تقوم به حكومات العدو السابقة، يبدو اليوم بعد ما شاهده العالم أجمع، ويومياً، على الشاشات، وفي نشرات الأخبار من تخاذلِ إسرائيل عن استرجاع مواطنيها، كما لو كان ينتمي إلى زمنٍ إسرائيلي انقضى. إلى "إسرائيل ما"، سابقة، اندثرت صورتها في الوعي العام العالمي. صورة هشّمها نتنياهو وحلفائه، لدى أعدائها وأصدقائها سواء بسواء. أمّا المتوفّر حالياً؟ فصورةُ إسرائيل الهمجية، والتي لا تُبالي حتى بمصير مواطنيها من أجل مصلحة قائد فاسد مُشعل حرائق ومهووس بالسلطة.
قبل السابع من أكتوبر، كانت إسرائيل قد رسّخت صورتها بصفتها كياناً يقوم بأيّ شيء لاسترداد مواطنيه، ولو كانوا جثثاً، وبأيّ ثمن. وعلى هذا، بين أمور أخرى، اتكلت الفصائل الفلسطينية لا شك في حساباتها، عندما بادرت لاحتجاز وأسر مئات الإسرائيليين في عملية طوفان الأقصى رغبة في إنقاذ الأسرى الفلسطينيين الذين تفوق أعدادهم أحد عشر ألف أسير في سجون الاحتلال، يعيشون ويموتون في ظروفٍ غامضة "غوانتانامية" أو "أبو غريبية".
هنيبعل هو من قرّر، وبمحض إرادته تجرّع السم وقتل نفسه، ولم يقتله قائده، كما يفعل نتنياهو، لنزع ورقة تفاوض من يد العدو
بالرغم من التعالي والغرور الذي كان المُفاوض الإسرائيلي يحرص على إظهاره بموافقته لدى قيامه بعملية تبادل، على إطلاق سراح آلاف المعتقلين الفلسطينيين والعرب، مقابل جندي واحد، كما حصل مع صفقة شاليط مثلاً، فإنّ ذلك لم يكن يهم المفاوض الفلسطيني أو اللبناني. كان الإسرائيلي يتوخّى من هذا القبول بصفقاتٍ مُماثلة تأكيد تفوّق عرقي يعتقده ويروّجه، وضآلة قيمة أسرانا مقارنة بأسراه. لكن في ميزان القوى على الأرض، أن تستطيع تحرير القدر الأكبر من أسراك، هو المهم، مهما كان الشكل الذي يخرج به العدو من تلك الصفقة إعلامياً.
لكن نتنياهو قام بمحو إسرائيل المُتفاخرة تلك من الوجود، لصالح إسرائيل أخرى تبدو أقرب إلى أن تكون "عملية بسفالة"، لدرجة تخليها فعلياً عن أسراها، والذين، على الرغم من المعاملة الإنسانية التي يعاملهم بها المقاومون، لا ينفك عددهم يتناقص لأسباب كثيرة، أوّلها: تخلّي دولتهم عنهم لصالح الاستمرار في الإبادة بدلاً من التوقّف عن إطلاق النار والذهاب إلى تسويةٍ تقضي، بين أمور أخرى، باستردادهم. كما لامبالاتها بخضوعهم، بحكم الجغرافيا، لتلقي، كما الغزاويين، عقاب التجويع الجماعي والقتل بالمرض، لمنعها دخول الأدوية إلى القطاع إضافة إلى تدميرها كلّ المستشفيات.
لم تكن مماطلة إسرائيل في البداية مفهومة. وهي لا شك فاجأت الجميع. لكن هناك من همس بعبارة "لقد فعّلت إسرائيل بروتوكول هنيبعل"، في محاولةٍ للتفسير.
لكن، ما هو بروتوكول هنيبعل؟
هو بروتوكول صاغته في العام 1986 مجموعة من قادة في الجيش الإسرائيلي هم: يوسي بيليد، قائد المنطقة الشمالية للجيش الإسرائيلي يومها، والعقيد غابي أشكنازي، والعقيد يعقوب عميدورو.
ويحدّد البروتوكول الذي كشفت صحيفة "جيروزالم تايمز" عنه العام 2016، آلية للتصرّف عندما "يكون جندي معرضاً لخطر الاختطاف في أراض معادية، وأن تكون الأولوية بإنقاذ الجنود الأسرى من خاطفيهم، حتى لو كان ذلك بالمخاطرة بإيذاء هؤلاء الجنود".
إن كان هناك من يريد أن يقتدي بالبطل القرطاجي هنيبعل، فما على نتنياهو إلا أن يتجرّع السم بنفسه
وردت العبارة بالتحديد في تقريرٍ للجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة، المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل. فقد اتهمت اللجنة الجيش الإسرائيلي بتفعيل "بروتوكول هنيبعل" عدّة مرات خلال الهجمات في غزّة، لا بل خلال التصدي المتأخر للمقاومين أثناء عملية طوفان الأقصى، حيث أفاد الشهود أنّ الدبابات الإسرائيلية قصفت منزلاً، فيه، إضافة إلى عشرات المهاجمين، أربعة عشر إسرائيلياً، فقتلت الجميع من دون تفرقة.
يروي التقرير شواهد أخرى موثّقة بأقوال الشهود وصور الأقمار الاصطناعية وغيرها، ويروي غيرها ما حصل قبل ذلك بسنوات جرى فيه "تفعيل" هذا البروتوكول.
ومع إنّ إسرائيل نفت التقرير الأممي "البغيض" كما وصفته، واتهمته كالعادة، بالتحيّز و"اتباع أجندة معادية للسامية" الخ.. لكنها أثبتت بنفسها أنّها فعّلت تلك الآلية عدّة مرات خلال قصفها غزّة في أماكن يُرجّح وجود أسراها فيها، ثم قتلتهم مع خاطفيهم.
قصفت الدبابات الإسرائيلية منزلاً، فيه، إضافة إلى عشرات المهاجمين، أربعة عشر إسرائيلياً، فقتلت الجميع من دون تفرقة
وقبل أيّام، كان لافتاً بيان أصدره "أبو عبيدة" أشار فيه إلى قيام الجيش الإسرائيلي "مؤخراً بقصف مكان يوجد فيه بعض أسرى العدو" مضيفاً أنه، أي العدو، "كرر القصف للتأكد من مقتلهم".
لذا تبدو مطالبة إسرائيل برفات جثّة مجهولة المكان، مقابل تجاهلها نداءات أسراها الأحياء، محاولةً للتعويض أمام الرأي العام عما فعلته بأسراها الذين ما زال بعضهم أحياء حتى اليوم، يعربون عن قلقهم من الموت بصواريخ جيش بلادهم الذي ما زال مصرّاً على نعت نفسه بالأكثر أخلاقية في العالم.
يُقال إنّ إسرائيل أطلقت على هذا البروتوكول تسمية هنيبعل تيمناً باسم القائد القرطاجي الكبير، الذي حارب روما وهزمها قبل أن يهزمه قائد آخر هو سكيبيو الأفريقي. أما السبب؟ فهو أنّ القائد القرطاجي بعد أن تمّت خيانته، ووجد نفسه قاب قوسين من تسليمه لأعدائه الرومان، فضّل تجرّع السم على ذلّ الوقوع بيد العدو.
هي خطوة يقوم بها المحاربون الكبار لتلافي الذل. هكذا فعل الساموراي الياباني، وهكذا فعلت كليوبترا، وكذلك.. هتلر.
لكن ما لم تنتبه إليه إسرائيل في محاولةِ إضفاء النبل على بروتوكول متوحّش ولا أخلاقي، أنّ القائد هنيبعل هو من قرّر، وبمحض إرادته تجرّع السم وقتل نفسه، ولم يقتله قائده، كما يفعل نتنياهو، لنزع ورقة تفاوض من يد العدو.
إن كان هناك من يريد أن يقتدي بالبطل القرطاجي، فما على نتنياهو إلا أن يتجرّع السم بنفسه أولاً ليعتذر عن فشله بحماية أسراه، وثانياً عن تدميره اقتصاد الكيان سعياً لتلافي محاكمته فاسداً في إسرائيل، أو في الخارج مجرمَ حربٍ ارتكب كلّ أنواع الجرائم ضدّ الإنسانية وصولاً حتى الإبادة.