العصفورية
التعتيم الإعلامي المشدّد في إسرائيل على مجريات الحرب مع لبنان وتأثيرها على الداخل المحتل، لجهة الأضرار وأعداد القتلى والجرحى، طبيعي. وفرض العدو قانون الطوارئ والرقابة العسكرية على إعلامه ومجتمعه وصولاً إلى منع المستشفيات من الإعلان عن عدد الضحايا ما خلا بين المستوطنين، لا بل الذهاب إلى محاسبة الأفراد الذين يقومون بتصوير الأماكن التي تعرّضت للقصف من لبنان، هو الأخر متوقّع وطبيعي، لا بل سلوك صحيح في زمن الحروب للحفاظ على المعنويات.
ما هو غير طبيعي، يحصل فعلياً عندنا.
فعلى الرغم من فضيحة امتلاك العدو الداتا اللبنانية الكاملة للاتصالات، وعلى الرغم من النتائج الكارثية التي أصابتنا نتيجة التفريط بإجراءاتِ أمان هذه الداتا، أو حتى التفريط بها شخصياً، إن كان تسريباً أو بيعاً، وعلى الرغم من تأكيد الخبراء التقنيين اختراق العدو لهواتفنا وتطبيقات مثل "واتساب"، إضافة لاختراقات كثيرة أخرى، فإنّ سلوك لبنان، حكومة وشعباً بما يختص بهذه المسألة الحسّاسة، ما زال في فوضى عارمة.
لم تتخذ الدولة اللبنانية أيّة إجراءات للحدِّ من خسائرنا ولإيقاف النزف "الداتوي" إن صح التعبير. لا بل إنّ الأمر تفاقم في ظلّ الفوضى. حيث أخذت بعض الجمعيات التي انتَدبت نفسها لمساعدة النازحين، تجمع معلومات مفصّلة عن كلّ عائلة تتلقى المساعدة، بحجّة إثبات إنفاقها لأموال المموّل كما يجب.
أمّا مكافحة العملاء والجواسيس؟ فقد كان من جهة الأجهزة الأمنية ناشطاً، لدرجة نجاحها بتفكيك شبكات عملاء كاملة أو إلقاء القبض على أشخاص بشبهة التجسّس، ثبتت التهمة على أغلبهم بالدليل أو الاعتراف. لكن، ومن جهة أخرى، كانت الدولة نفسها، بما هي سلطة، تفرّط بما تنجزه أجهزتها، لدرجة أنها أطلقت سراح مواطن إسرائيلي/ بريطاني، قُبِضَ عليه يتجوّل في الضاحية نفسها، بزعم أنه يريد دعم المقاومة، لأنه "يكره إسرائيل" على ما كان يُنشد شعبان عبد الرحيم.
لا فرق لدينا بين حرب تقتل أخبارها الزائفة المدنيين، أو تخدم الحرب النفسية الشرسة التي يشنها العدو علينا، بحجة قدسية "نقل الصورة"، وبين سلام نتقاتل فيه كما لو كنا في حربٍ أهلية إعلامية دائمة
إلى كلّ تلك الفوضى، تُضاف الانتهاكات للأعراف السيادية. ها هي حكومة تصريف الأعمال (أعمال من؟) تسمح بتجوال سفراء دول أجنبية في مطار بيروت لإثبات خلّوه من صواريخ حزب الله، كما يزعم العدو الذي يحلّل قصفه للمدنيين بتلك الحجّة الممجوجة!
يا سلام.
وما ارتكبته الحكومة، قلّدها فيه إعلاميون جنّدوا أنفسهم، لتبرئة منشآت مدنية من تهمة كونها مستودعات أسلحة للمقاومة. هكذا، وبعد أن دعا صاحب "مستشفى الساحل"، وهو مستشفى خاص في الضاحية، الجيش اللبناني و.. يونيفيل (لسبب ما) لتفقد منشآت المستشفى إثباتاً لخلوّه ممّا ذكره العدو مهدّدًا بقصفه، حضر الإعلام وجال في كلّ أنحاء المبنى، ما شجّع الناطق باسم جيش الاحتلال على التمادي طالباً من "الإعلاميين"، بعد انتهائهم من "تفتيش متلفز بالبث المباشر"، أن ينتقلوا إلى المبنى المجاور لتفتيشه في أماكن محدّدة، فيفعلون، وبكلِّ ممنونية!
ولدى ملاحظته لنجاحه في التلاعب بهم، أصدر هذا المتحدث "رسالة" جديدة، نشرتها الشاشات المحلية عينها، بلهجةٍ لا تكاد تُخفى سخريتها، يوجّههم فيها إلى مدخل محدّد بين المستشفى ومركز الساحل التجاري الملاصق، والمقفل أصلًا منذ بداية العدوان، مدعيًا أنّ هناك مخبأ "يحتوي على نصف مليار دولار من الأموال والذهب في السرداب". مردفاً، إنّ إقفال المركز هو بسبب "أن حزب الله لا يريدهم أن يكتشفوا الأموال المخبأة داخله"! ضحكت كثيرا عند سماعي ذلك. تذكرت سلسلة "المغامرون الخمسة" للأطفال، وقصص جزيرة الكنز، وكدت لا أصدّق ما يحصل أمامي.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، هكذا دعا القيمون على المركز التجاري، الذين يمكن تفهم خوفهم على مصدر رزقهم، الإعلام لتفحص كلّ أنحاء المركز بالبثِّ المباشر أيضاً، وهذا ما حدث.
ولقد تطلّب الأمر وقتاً طويلاً من وزير الإعلام، زياد المكاري، للتعليق على كلّ هذه الأحداث، لكن بالطريقة المتراخية ذاتها، فصرّح أنه يعوّل "على الحس المهني والوعي الوطني لدى المراسلين والمصورين في عدم الانسياق إلى السرديات المعادية، أو التسليم بما تروّج له تحت ستار (إرشاد الصحافيين) إلى أماكن معينة أو (استرعاء انتباههم وتوجيههم) نحو أهداف محتملة".
إعلام، يبدو بعضه منفصلاً تماماً عن الناس وما يشعرون به، كما لو أنهم مجرّد صورة
هذا ليس وطناً. إنّها عصفورية (مفردة بالعامية اللبنانية تعني مستشفى للمختلين عقلياً).
بالمختصر، الفلتان الإعلامي هو عنوان المرحلة. ذلك أنّه يحلو للبنانيين أن يطبّقوا حرية التعبير في كلّ الأوقات، نحن لا فرق لدينا بين حرب تقتل أخبارها الزائفة أو تداول شائعاتها المدنيين، أو تخدم الحرب النفسية الشرسة التي يشنها العدو علينا، بحجة قدسية "نقل الصورة"، وبين سلام نتقاتل فيه كما لو كنا في حربٍ أهلية إعلامية دائمة.
إعلام لا يتورع عن ترداد "أخبار" نقلاً عن إعلام العدو، من الواضح أنها تتوخى، إمّا التأكيد من جهتنا أو النفي، كما في إعلان اغتيال قادة من المقاومة بالتحديد، أو لمجرّد إحباط اللبنانيين.
وما يسهم في مشهد الفوضى هذه، أنّ هذا الإعلام خصوصًا بشقه المرئي والمسموع، يبدو بعضه منفصلاً تماماً عن الناس وما يشعرون به، كما لو أنهم مجرّد صورة.
هكذا تعرضت مراسلة ميدانية لطردٍ كاد يصل أسلوبه إلى الضرب وتكسير الكاميرا، من منطقةٍ مكتظة بالسكان تعرّضت للتو لقصفٍ عنيف أحدث مجزرة رهيبة بمدنيين كانوا نائمين.
لم تفكر المراسلة العبقرية، والتي كانت شديدة الانفعال على الهواء (ربما لوصولها قبل غيرها، فالسبق الصحافي هو المهم) أنّ الأهالي المفجوعين في حالة توتر وغليان، خصوصًا أنّه لم تمض بعد دقائق على الغارة! وأنّ العدو، من جهةٍ أخرى يراقب، وهو بحاجة لمعاينة نتائج استهدافاته، وأنّها تقدّم له بتغطيتها الفورية تلك المعلومات بتصويرها موقع الاستهداف وحديثها مع الناس. أصلًا، لا يبدو أنّ إدارتها وجهتها بشكل ما. هي بريئة براءة الجاهل، لكن كيف من الممكن أن لا تفكّر بشيء بديهي كهذا أصلاً؟ لا أفهم.
الصورة في الإعلام الإلكتروني أقل قتامة بقليل، ليس لأنّها خالية من هذا السم في الدسم، بل لأنه يُتاح للناشطين هناك، عكس الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، أن يصحّحوا الأخبار المزيفة ويكذبوا ما تروّجه البروباغندا الإسرائيلية، على الرغم من القمع الإلكتروني الذي يتعرّض له داعمو فلسطين أو لبنان على منصات "ميتا".
مثال ذلك ما حصل لمبنى سكني تقطنه عائلات مدنية نازحة في بلدة أيطو شمالي لبنان، حيث سوّق العدو أنّ سبب استهدافه للمبنى، وجود أحمد فقيه، المسؤول في حزب الله، في داخله. في حين أنّ الشاب كان قد استشهد قبل ثلاثة أسابيع على الجبهة الجنوبية.
استغل الإعلام العبري صورة نعي الشاب المنشورة في فبركة الخبر، الذي سبقه، صدّق أو لا تصدّق، تحريض من حساب مواطن لبناني، باسمه الواضح، على منصّة إكس، يقول فيه إنّ هذا المبنى يسكنه أعضاء من حزب الله وأنّه يحتوي على أسلحة وذخائر!
لقد "تصرفت" الأجهزة الأمنية مع هذا "المواطن"، كما فعلت مع إخباريات عديدة عن مواطنين، كانوا يرسلون تهديدات لمبان من أجل إخلائها على اعتبار أنّ العدو يهدّد بقصفها، ثم يتبيّن أنها "مزاح" من هنا، وكراهية طائفية/أيديولوجية من هناك، وعمالة واضحة من هنالك.
يا لهذا المشهد المفرح للعدو.