هل يتحقّق فعليًّا العيش من أجل الذات؟
عزيز أشيبان
ممّا لا شكّ فيه أنّ الذات الإنسانية تتوق إلى تحقيقِ طموحاتٍ وأهداف، وتتبع في سبيل تحقيق ذلك سبلًا متعدّدة، وتبذل الجهد والمال والوقت في سعيها الشاق هذا، لعلّها تهتدي إلى النورِ المضيء في ليلٍ حالكٍ مهيب، لكن، هل حقًا هي الذات نفسها التي تحدّد تلك الطموحات أم وضعتها تلقائيًّا، وبدون إدراك، استجابةً لما حدّده الغير وجعله في مقامِ المنطقي الاعتيادي الذي يناله الإطراء والمدح والثناء؟
في قلبِ أنماطِ العيش التي تتبناها الذات تستقر تمثّلات عديدة، تستهدفُ أساسًا العالم الخارجي وتُركز على عناصره مع الإعراضِ عن العالم الداخلي للذات، إذ نُعاين تمثّلات وفق تصوّراتِ نمطِ العيش الجماعي في محاولةِ إدراكِ رضا الناس، أو تمثّلات السعي وراء بلوغِ وضعٍ اجتماعي معيّن لتلقى نظرةً محترمة من طرف المجتمع. حقًا، يمكن سرد بعض التجلّيات لهذه التمثلات الشائعة، وربّما غير الطبيعية، والتي تنبعث من صلبِ غرائز الخوف والبحث عن الاستقرار والمؤانسة. في التجلّي الأول، نحيل على من يسلك مسارًا دراسيًّا ومهنيًّا، بحسب ما يصنّفه المجتمع ويضعه في قمّة الوضعِ الاجتماعي الاعتباري، تبعًا لتصوّرات النجاح والتفوّق والتميّز ومعاييرها التي وضعها الناس، باحثًا عن المال والجاه والإعجاب من الناس من دون أن يتوقّف لحظة ويُسائل ماهية تلك المعايير وتوافقها مع حقيقة إيمانه الشخصي بما هو مُقبل عليه.
ثمّة من يُقبل على الزواج والإنجاب فقط استجابةً لنداءِ الأعراف، ونمط العيش السائد، وتجنّب حرجِ السؤال، في حين تفتقد علاقته الزوجية الودّ والحميمية والتفاعل والانصهار وتتركز على أداءِ دورها البيولوجي الصرف بحثًا عن الذرية والمعين عند الكبر والهروب من شبحِ الوحدةِ الحتمي. في التجلّي الثالث، نذكر بمن يُقبل على العبادة ويُبدي ممارسة الطقوس ويواظب على ذلك من دون التشبّع بروحها ومقاصدها والغورِ في أحكام تنزيلها، حيث يقتصر اهتمامه على الاتباعِ واقتفاء أثر الأتراب، أو من سبقه من الآباء والأجداد، محاولًا إدراك احترام الناس ورضاهم وثنائهم عليه. ليس غريبًا إذن أن يشيع الرياء والنفاق الاجتماعي والانصراف عن الواقع والتزييف والكذب والتقليد والخوف وعدم الثقة في النفس والرتابة والملل والجمود وضبابية الرؤية ما دامت الذات رهينة الاستجابة لمعايير العالم الخارجي وأنماطِه، متجاهلةً عالمها الداخلي القريب البعيد جدًّا.
يُلازم محاولة الخروج عن الأنماط الشائعة شعور بالوحدة والخوف والتردّد حيث الدرب مختلف عن الدروب التي يسلكها السواد الأعظم من الناس
هل حقًا تعيش الذات وفق قناعاتها وتصوّراتها الشخصية؟ أيّها القارئ الكريم، نحن بصددِ طرح سؤالٍ حرجٍ وجوهريٍ يستوجب توجيهه إلى الذات بين وقتٍ وآخر مع حضورِ الشجاعة في الإقدام على طرحه ما دامت المواجهة تهم الذات وتدور رحاها في دواخلها المركبة والمجهولة والعصية على الكشف وتتوزّع على مجموعةٍ من القدرات ونقاط الضعف والمخاوف والأوهام والقناعات. حتمًا، يُلازم محاولة الخروج عن الأنماط الشائعة شعور بالوحدة والخوف والتردّد، حيث الدرب مختلف عن الدروب التي يسلكها السواد الأعظم من الناس ويستلزم البسالة والاستماتة والثقة بالنفس والثبات على القناعة، وتحمّل المسؤولية وترقب الصدمات. نتحدث إذن عن تمرّد مطلوب وحاسم للنجاة من الضياع في زحمةِ ما هو شائع وإنصاف الذات وتحريرها من القيود وتعبيد الطريق لانطلاق رحلتها نحو آفاق التطوّر والإبداع والإنتاج.
من دون شك، يُحيل هذا السؤال الجوهري على الكيف والنوعية وتصوّر مُمكنات تحقّقه، لذلك نميل إلى القول إنّه من أجل تنزيل فكرةِ العيش وفق ما تمليه القناعات والتصوّرات والرؤى الشخصية يجب الانكباب على الجانب الداخلي الصرف والغور في أسراره الخفية مع الانفصال المنهجي الحذر عن العالم الخارجي. لا مفر إذن من الهمّ بالعمل على الحالة الذهنية من بوابةِ إسقاطِ وهمِ معرفةِ الذات والخوض الفعلي في اكتشافها واختبار قدراتها عبر مراكمة التجارب والمبادرات من أجلِ فحصِ مؤهلاتها ومعاينة نواقصها ومخاوفها وتقبّلها والتصالح معها نحو تشييد بيئة بناء الشخصية التي تستأثر بحقها في بناء نمطِ عيشها الخاص، وتحديد أهدافها وطموحاتها، وبناء تصوّراتها للمفاهيم من قبيل النجاح والفشل، وتستعد لتلقي الكبوات والصدمات نحو الارتقاء والتطوّر والنضج. من المؤكد أنّ العملية ترقى إلى مرتبةِ جهادٍ حقيقي يخصّ البنيات الذهنية والنفسية والفكرية للذات ويرمي إلى تحقيق توازن شخصي يُعين على الخوض في مختلف التحدّيات.