بين رغبة الانتقام وفضيلة الصفح
عزيز أشيبان
من منّا لم يُراوده إغراء شعور الانتقام ممّن ألحق بالذات الضرر والأذى، أو سلبها إحدى حقوقها الماديّة، أو جرح مشاعرها بكلماتٍ أو تجرّأ على كرامتها؟ كيف لا، والذات تستوطنها ميولات أبديّة صعبة الضبط أو الترويض من قبيل تضخّم الأنا، الأنانيَة، والتكبّر، والنرجسيّة، وتتخلّلها اضطرابات نفسيّة متعدّدة ونامية، تشتغل إلى جانب نزعاتِ الغرائز البدائيّة التي تغذّي الميول نحو العنف والعدوانيّة. وبكلِّ تأكيد، تتعدّد المحفّزات التي تؤجّج النزوع نحو خيار الشر والانتقام، وهذا ليس إلا تجليّاً للميول التي قد يحتفظ بها المرء ويجد لها المبرّرات النابعة من الذات، وربّما المنطقيّة في ما يخص الذات.
ربما التصوّر المشترك السائد حول مفهوم مصطلح الانتقام يُختزل في مقام ردِّ الفعل الذي يسعى إلى النيل ممّن ألحق الضرر بالذات من أجل إطفاء نار الغلّ التي اشتعلت وسكنت دواخلها، ولن تخمد إلّا بتحقّق رغبة ردِّ الفعل. لكن، هل يستقر المعنى الدقيق لفكرة الانتقام في هذا التصوّر؟
عندما يلحق الذات الأذى من الآخر تستوطنها بعض المشاعر السلبيّة التي قد تضمحل وتختفي مع مرور الوقت، وأخرى تتحوّل إلى هواجس سامة، ومن رحمها تتشكّل فكرة الانتقام التي تنمو وتتحوّل إلى هوسٍ يسطو على حيّزٍ من تركيزِ الشخص ويوظّف بعضاً من طاقته الذهنيّة والنفسيّة والعاطفيّة، وتحول دون تركيزه على المستقبل بطريقةٍ عقلانيّةٍ وصفاء التفكير والرؤية.
منذ البدء يتحوّل الشعور بالرغبة في الانتقام إلى فكرةٍ ثم فعلٍ مع حضورِ عناصر تحفيز قويّة، إذ يتمتّع نداء الانتقام بجاذبيّةٍ تُخاطب طبيعة العنصر البشري الحريصة على حمايةِ الذات من الخطر والتهديد، بالقدر الذي يستهدف مناقب الضعف والاضطرابات في النفس البشريّة. ومن هنا تصعب تدبير كيفيّة التعامل مع الإساءة التي تحظى بالتضخيم والمبالغة ويغيب التركيز على نوعيّتها في حضور التسرّع وقوّة الدافع العاطفي، فيفتقد بذلك ردّ الفعل للعقلانيّة والتريّث. فضلاً عن ذلك، في أحضان السعي نحو تحقيق رغبة الانتقام، تتضخّم سطوة الماضي على الحاضر والمستقبل، وترتوي السادية، ويغيب العقل، ويرتفع صوت الغرائز الحيوانيّة، وتتلاشى القيم وتتسيّد الفوضى.
هل وكيف يمكن إقناع شخص تعرّض للظلم بالإعراض عن فكرة الانتقام في بيئة يسودها سوء التدبير والفساد؟
في الواقع، تتبادر إلى الذهن مجموعة من التساؤلات التي نتقاسمها مع القارئ الكريم حول خيار الانتقام لعلنا نغني النقاش، والتي نقدّمها في الأسئلة التالية:
(1): من المفترض أن تشعرَ الذات بالراحة والرضى بعد تحقّق الانتقام، لكن هل يستمر هذا الشعور في الاشتغال أم يتحوّل إلى شعورٍ عكسي يؤذي الذات أكثر ممّا يخدم وضعها النفسي والذهني والعاطفي؟
(2): إذا كان الشعور بالغضب والإحباط يحظى بالشرعيّة، هل الهم في تحقيق رغبة الانتقام يقوم على الشرعيّة نفسها؟
(3): هل وكيف يمكن إقناع شخص تعرّض للظلم بالإعراض عن فكرةِ الانتقام في بيئةٍ يسودها سوء التدبير والفساد؟
تنطلق فكرة الصفح من موقع قوّة وقدرة، وليس من موقع ضعفٍ وعجزٍ وخنوع
على الضفّة الأخرى، يعلو نداء الصفح والعفو والترفّع، والذي يجد آذانًا مُصغية عندما يتفوّق الخير على الشر، بتجاهل النداء الآخر الأكثر جاذبيّة، المُنبعث من الضفّة الأخرى، حيث تستقر الرغبة في الانتقام. وهنا نتحدّث عن خيار صعب التحقّق باعتبار أنّ أرضيّته تقوم على ضبطِ النفس والتريّث وعدم الاستجابة لحرارةِ المشاعر والترفّع على نداء غريزة العدوانيّة وتحقيق القصاص.
في رحاب هذا الخيار، تنبعث قيم الأمل وتسمو فضيلة الحبّ، ويعلو نداء العقل والحكمة وتنفرد الروح بقيادة السلوك والمبادرات الفردية. كما تنحو الذات إلى تجنّب تبديد الجهد على الإعداد للانتقام من الآخر، وتقوم بتصريفه على خدمةِ الذات وتقويتها. غير أنّه يجب عدم تقديم الصفح بتاتاً بمثابة تمثّل تجسيد ظاهري لما تخفيه الذات من جبنٍ وخنوعٍ وقابليّة الاستعباد، إذ على النقيض من ذلك، تنطلق فكرة الصفح من موقع قوّة وقدرة، وليس من موقع ضعفٍ وعجزٍ وخنوع.
نرى أنّ الاستثناء يتحقّق عندما تتحوّل الرغبة في الانتقام إلى محفّزٍ من أجل تحقيق إنجاز تبرز من خلاله الذات قوّتها وتميّزها من الآخرين، وتستثمر النار التي تشتعل في دواخلها من أجل بحث عن تمثّل إيجابي لفكرة الانتقام من دون إلحاق الأذى بصاحبها.