هل للمرأة أن تكتب؟
لم يكن السؤال على لسان الباحثة والناقدة والناشطة غاياتري سبيفاك "هل للمرأة أن تكتب؟"، بل كان "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟". وها أنا أستعين بلسانها، هي المرأة الآسيوية التي تُدرّس في جامعة أميركية، وأنا هنا الرجل الذي يتلعثم في لغته. هي كتبت بغير لغتها، وأنا قرأتها في لغتي. هي لن تقرأ ما أكتبه إلا عندما يصير على طاولة مفاوضاتها المستمرة مع الوسط أو مع حقلها، إلا عندما يدخل في حالة ترجمة.
سؤالي هنا، ليس تكملة، قد يكون اختفاءً. وهو أيضاً، ليس ردّاً على سؤالها، ربما، بالأكثر، تغذيةً مرتدة، أو الكلام الناقص الذي تبحث عنه. هي امرأة تسأل عن كلام التابع، وأنا رجل أبحث عن كتابة امرأة. أطلقت سبيفاك سؤالها من موقع إمبريإلى بامتياز، وتأتي التغذية أو الترجيع من تابع بامتياز. شيء لا يمكن تسميته يظهر الآن، ربما، حوار التابع مع التابع، وهو حوار لا صوت له، هو حوار يجد نموذجه في الصمت، ربما هو، هذا الشيء، تكرار لكتابة التابع، وهي كتابة مترحلة، متنقلة، هي كتابة ترتج كضلفتي باب.
تكتب امرأة سوداء من سلالة العبيد، كما نقلها الكاتب والباحث هومى بابا، في نصه "موقع الثقافة" وترجمه ثائر ديب:
ذات يوم تعلمت
فنّاً سرّياً
يُدعى الاختفاء.
وأحسب أنه يفعل فعله
الآن وأنتم تنظرون
دون أن تروني قط...
وحدهما عيناي ستبقيان تراقبان وتتعقبان،
وتحولان أحلامكم
إلى عماء.
هنا امرأة تكتب، دون أن ترى، تتعقّب وتلاحق وتراقب، إنها تقلب التحديق الذكوري وتردّه. إننا بإزاء فعل تحديق مضاد، أو بصدد فن سرّي يُدعى الاختفاء. وهنا لا يمكن التلفظ بعبارة الهوية، فنحن نواجه تردّداً مستمراً واختفاءً متلاحقاً. إنّ هذه الكتابة/الفن/السر تفلت من العين، من التحديق، من التعيين. هذا الموقع الذي تحتله الذات بوصفها عيناً فقط، عيناً ترى وتلاحق، كأنها انقطعت عن الجسد، أو انفصلت عن التعيين، هي عين شريرة، أو فقط حدقة تدور في ظلام لكي تحوّل الذكورة إلى عماء، هذه العين تخترق الحدود بين الخطابات السائدة، وتتموقع بين بين، في الفراغات البيضاء التي توجد بين الأسطر لكي تخلخل مجمل البنية السائدة. ولا تسعى المرأة للحصول على هوية أو ذاكرة، فهي تكتب ضد الذاكرة، فالذاكرة تكوّنت في غيابها، بينما هي تقبع في مكان خفي لكي تتعلّم فنّها السري، الذي يقبع في منطقة معتمة، هي تطالب بحصة للصمت، وللغياب، هي تكتب من أجل النسيان. وتكتب أيضاً ضد الأرشيف المتاخم لوجودها، ويحفظ سجلات لم تخطّها بيدها، دائماً يُكتب عنها، دائما إنابة، أرشيف يعمل دائماً وفقاً لآليات التمثيل والتهميش والاستبعاد.
لا تسعى المرأة للحصول على هوية أو ذاكرة، فهى تكتب ضد الذاكرة
امرأة تكتب، فهي تعدّ خطة للهروب، تدخل في عزلتها وعزلة الكتابة، تدخل في تحوّلاتها، أي إنها تصير هناك، تذهب بعيداً، تنزل نهر Ouse لكي تلتقي هناك فرجينيا وولف "لن أشفى هذه المرة، بدأت أسمع الأصوات ولا أستطيع التركيز... لا أستطيع المقاومة بعد الآن". تذهب بعيداً عن كونها امرأة، "لم أعطك أدنى فكرة عن الأمواج العالية المهولة التي تحملني إلى أعلى القمم ثم تهوي بي إلى وديان جهنمية سحيقة...".
قف هناك وترقب جثة، فرجينيا وولف، عندئذ يمكن، وفقط، الكتابة عن الغمر والخواء والعزلة والصمت والحجارة. لقد كانت فرجينيا كتابةً، وكان عليها ألا تدرك بأنها تكتب، كما يقول المحلّل النفسي جاك لاكان: "إنها لا يجب أن تدرك أنها تكتب ما تكتب، قد تضيع لو أدركت، وستكون كارثة".
في مواجهة حائط
إنّ المرأة لا تجد التعبير الكافي عنها في إطار الرمزية الأبوية، لهذا فالاستراتيجية الوحيدة التى ينبغي أن تأخذ بها المرأة، كما ترى لوسي إريجاري (فيلسوفة ومحللة نفسية، وكانت عضواً في مدرسة جاك لاكان وفصلت منها بسبب مواقفها النقدية)، هي استراتيجية المقاومة من الداخل، أي حلّ البنية الرمزية باستخدام أدوات هذه البنية نفسها. لقد عملت إريجاري على خلخلة النصوص الكبرى في التاريخ؛ لأفلاطون وسوفوكليس وفرويد وهيغل ولاكان، وذلك في مقال مشهور لها بعنوان "هذا الجنس الذي ليس جنساً واحداً"، وفيه تلاعبت بفرويد القائل بأنّ المرأة ليس لها جنس موجب خاص بها، بمعنى أنها ليست رجلاً أو لا رجل، هذا التعريف السلبي للمرأة هو ما تلاعبت به إيجاري لخلخلة البنية الرمزية المونولوجية النابعة من التمركز اللغوي حول الذكر. إنّ المرأة تكتب ضد الفالوس، ولا تسعى للاستحواذ، بل هي كتابة لقيطة، عارية، ومحتملة، بلا مرجعية، متقطعة وبلا رأس، فقط أعضاء كثيرة ومتعدّدة ومتبعثرة، كتابة متعددة ومائعة جنسياً.
إنّ المرأة، الضلع الأعوج، أو ناقصة العقل، تعمل ضد امتياز الكمال والاستقامة، وضد حكمة العقل الأبوية، وهي كتابة لا تبحث عن هذا الحائط/ الرجل لكي تستند إليه، هي تستند إلى ظلها، إلى صوتها الذي يلمع في العتمة ويسقط فى حفرة ظلمتها، في شقها المخيف. هذه الكتابة تطالب بتحوّل في طرق القراءة، قراءة مغايرة أيضاً، لا تسعى للاستحواذ على النص، بل قابلة للسقوط في الغواية أو في الشرك، قراءة تعمل كفعل استدعاء أو مناجاة أو توسّل أو ضيافة، فالقراءة المغلقة هي أيضاً مثلها مثل الكتابة، فعل عنيف يسعى نحو تشكيل الذات.