هلوسات طيابة الرمان
تسمى هذه الأيام في ثقافتنا الشعبية وحكينا اليومي "الغشاة" أو "طيابة الرّمان"، وقد تعلمتُ هذه التسمية من والدتي التي تلقتها من أمها وجدتها، وهي تسمية متوارثة ومُتناقلة، حيث تجد لكل منطقة تسميتها الخاصة بهذه الفترة التي تعد فصلاً خامساً مُصغراً يقتحم خلوة الخريف، أيّامٌ ساخنة ورطبة تأتي بعد أيام لطيفة في بداية فصل الخريف، ما يسمح باكتمال نضوج ما نحب من فواكه هذا الفصل، خاصة فاكهة الرمان المقدسة التي تكتسب حباتها خلال هذه الفترة مزيداً من الحمرة والحلاوة والإغراء، ما يجعلها فاكهة للغواية.
تُعَدُّ إذن حرارة هذه الأيام في بلادنا وفي أماكن متفرقة من العالم طبيعية رغم ارتفاعها الغريب وتغير الجو في استحضار لأيام الصيف الحارقة، حرارة "قوايل الرمان" كما تسمى في الجارة تونس أيضا، لا تشبه حرارة الصيف لكنها تحاول مضاهاتها، رغم ذلك، تتخللها من الحين إلى الآخر نسمات خريفية لتوقظها من وهمها، كما أن ذلك الشعور الذي ينبع في النفوس خلال نسمات الصباح الأولى ينبئنا بأن أيام الخمول قد شارفت على نهايتها، وأن الصيف لا يجلس بكل ثقله فوق أجسادنا كما كان يفعل خلال الشهور الماضية، لقد غادر، وكل ما يحدث بعده ما هو إلا محاولات فاشلة لمقاومة تغيرات الجو وانخفاض الحرارة القادم لا محالة.
انظر حولك مثلاً إلى كل تلك الأشجار ونباتات الزينة التي عانت طويلاً من عطش الصيف ووطأته، تلك المناظر المُصفرّة المترامية ستتلاشى شيئاً فشيئاً قريباً، لأن الحياة دائما ما تُخلق من جديد بعد هذه الأيام التي تحاول عبثاً أن تلبس عباءة الصيف الثقيلة على كتفيها المتعبتين.
هنالك أيضاً (طيابة) شبيهة بهذه التي نعيشها في أمكنة أخرى من العالم، يختلف توقيتها قليلا ويمتد إلى ما بعد شهر من طيابة الرمان عندنا، لكنها لا تحمل اسم فاكهتنا المغرية، ربما لأنها هناك، تساهم في نضوج أشياء أخرى أو بشر آخرين، أو ربما لأنها فترة إلهام كبيرة للفنانين ومحبي الطبيعة.
إنها طيابة الرمان القاسية والقصيرة مثل حب بلا أمل، إنها غير فتية ولا ترتدي فستانا طويلا، ولا تمشي على الشاطئ بتمايل، إنها موعد نضوج شعوبٍ ألفت التعايش مع الطبيعة وتدليلها لتكون أكثر رحمة بهم
يسمى هذا الوقت في مناطق متفرقة من أميركا الشمالية وكندا بالصيف الهندي "Indian summer"، وتُنسب هذه التسمية حسب روايات عديدة إلى الفترة التي كان فيها الهنود (السكان الأصليون لأميركا الشمالية) يتمون فيها جمع محاصيلهم وتزيين أكواخهم (الويغوام) لتخزين المحاصيل، وحسب رواية أخرى يقال إن التسمية تعود إلى فترة الحملات الفرنسية على أميركا، حيث كان الفرنسيون يخشون وطأة الشتاء في الكيبيك، فكان السكان الأصليون يطمئنونهم بوجود فترة من الدفء والجو المشمس بعد أول موجة برد يجلبها الخريف، كما ينسب البعض التسمية أيضاً إلى التغير الذي يحدثه قدوم الخريف على الألوان في الطبيعة بحلول تلك المفضلة لدى الهنود الحمر مع بداية فصل الخريف.
في بلداننا المغاربية، اشتهرت تسمية الصيف الهندي أيضاً، لكن من خلال أغنية (جو داسان) التي تحمل نفس العنوان باللغة الفرنسية، واحدة من بين عشرات الأغاني الفرنسية التي أثثت قصص غرام المراهقين والشباب والكهول على حد سواء في السبعينات والثمانينات خلال القرن الماضي.
لقد كنا نتخيل مشهد الحب ذاك حالمين مع تلك المقاطع المرددة بأفواه الكورال المرافق، وكنا نرى في أحلام يقظتنا تلك الفتاة الجميلة التي فتنت (جو) بفستانها الطويل، تلك البهية الشبيهة بلوحة مائية للرسامة (ماري لورونسان)، لكننا كنا هنا، تحت رحمة مناخ مختلف، أكثر قسوة بقليل، وأحسسنا أيضاً بذلك الجو الرطب الذي تخلل مشهد الفتاة التي لم تعد موجودة، جو ساخن ونسمات بحرية متقطعة ومرارة فقدان هناك، ثم يقظةٌ هنا حيث لا يعد الحب حراً ولا مُتاحاً..
في وسط كل تلك الأحلام، ومع ذلك الشعور السيئ بمرارة الحب بعد الحلاوة التي كانت تحملها فتاة اللوحة المائية التي نضجت، ورحلت بعيدا عن ذلك الخريف الحزين، وعن قلب رجل لا يزال أسيراً للصيف الهندي، يتسلل إلى مسامعنا مقطع من الأغنية، يقول بأن تلك الفترة المتمردة على الطبيعة لا توجد إلا في شمال أميركا، لكننا أدركنا منذ البداية أنها موجودة هنا أيضا في شمال أفريقيا، بألوان مختلفة بعض الشيء، باهتة ربما، لأنها تحمل ملامح أخرى أكثر شدة، ووجها بتجاعيد بارزة، وتسمية أخرى بسيطة لكنها رحبة الفحوى والمعنى.
إنها طيابة الرمان القاسية والقصيرة مثل حب بلا أمل، إنها غير فتية ولا ترتدي فستاناً طويلاً، ولا تمشي على الشاطئ بتمايل، إنها موعد نضوج شعوبٍ ألفت التعايش مع الطبيعة وتدليلها لتكون أكثر رحمة بهم، موعد لا يتأجل أبداً ويدل على ارتباط أهل الأرض بالأرض، على صلة الإنسان الوثيقة هنا أيضاً بفطرته التي جعلته يتفنن بتسمية ظواهر طبيعية تحدث أمام ناظريه كل لحظة لوصف التغيرات المناخية، فنضوج الرمان مثلاً يعني أن غوايته تكفينا لنحتمل فصلاً خامساً، و(غسالة النوادر) أواخر الصيف هي دعوة للطبيعة لتغسل آثار صيف قاس بأمطار مباركة، وهكذا نلمس منذ نعومة أظافرنا في ثقافتنا الشعبية الغنية مثل هذه التسميات البليغة جدا على بساطتها، وكلما كنا أقرب إلى الطبيعة تداولناها أكثر، لأن حضارة الشعوب التي ما تزال مرتبطة بأصولها وملامح الطبيعة بوجوهها العديدة دائما ما تظهر في لسانها وطريقة وصفها لما تعايشه وتعيشه عبر الزمن.