هكذا تكلَّم عاملٌ عن هادي العلوي
(بمناسبة ذكرى ربع قرن على رحيل المفكر العراقي هادي العلوي).
يُفتح الستار عن شخصين مُتقاربين في العمر، يقفان على الرصيف الأيمن نهاية الشارع الذاهب من ساحة الحجاز (محطة القطار) باتجاه سوق الحميدية، وهما أقرب إلى مدخل سوق الحميدية في وسط العاصمة السورية دمشق.
الأوّل، يحمل دستة من الكُتب التي يُوحي منظرها بأنّها من بسطات بائعي الكتب المستعملة عند جسر فكتوريا. وأما الثاني، فيحمل حقيبة مفتوحة تظهر منها عدّة شغل: مثقاب كهربائي، مطارق، أزاميل، كماشات، مسامير، براغٍ، مفكات، كابلات كهربائية.
المشهد الأول على الرصيف
- أين أنت يا رجل؟ على أساس نحن جيران وأولاد حارة واحدة، من سنوات لم أرَك، أين أراضيك؟ أما زلت تقرأ حتى الآن، ألم تشبع من القراءة؟
- نعم، لم أشبع بعد، وأشتري الكُتب كما ترى، لماذا لا تقرأ أنت؟
- حل عنّي يا رجل، ناقصني كُتب وقراءة، فيني ما يكفي، الكُتب، أصلاً، تُخرّب عقل الإنسان.
- والله، وكيف تُخرّب عقل الإنسان، هات لشوف؟
- يا سيدي، كانت آخر علاقة لي مع الكُتب في الصف الرابع الابتدائي، يومها تقاتلتُ مع والدي، وقد نسيت الآن سبب قتالي معه. ومن قهري وفورة دمي، وبعد الانصراف من المدرسة ذلك اليوم، علَّقت حقيبة كتبي المدرسية في خطاف في خلفية أحد باصات النقل الداخلي السائرة في شوارع دمشق، وقلتُ لها وداعاً. وكانت تلك اللحظة العظيمة آخر عهدي بالكتب والقراءة والدراسة، ثمَّ نزلتُ مباشرة بكامل أناقتي وقواي العقلية (قبل أن تُخرّبها الكتب) إلى سوق العمل في تلك السن المُبكّرة من حياتي.
- ألم تندم على فعلتك تلك؟ لو شاهدك وزير التربية والتعليم تلك الأيام، وأنت تُعلّق حقيبة الكتب المدرسية في باص النقل الداخلي لأصابته "جلطة"، وصاح المؤذن في الصباح الباكر: "يا حيّ يا قيّوم"... وبعد جنازة سيادة الوزير، يجتمع الخلق في صيوان التعزية ليأكلوا على روحه لحم بعجين، وكان الله يُحب المحسنين.
- أندم، على ماذا أندم؟ ها هو الشارع أمامك، فيه بائع الكتب، وبائع العصير، والواقف أمام سيخ الشاورما، وفي الشارع نفسه تجد مسرحاً، وكان قبل ذلك دار سينما، وعلى الرصيف المُقابل دكان عطار، ولم يستطع إصلاح ما أفسده الدهر، وتجد في زاوية الشارع بائع الكعك الصغير، والصغير هنا (لو سمحت لي) عائدة على البائع كما يقول أصحابك أهل العلم والثقافة، وتجد أمامك، بل قُل يصدمك على حين غرّة، بائع اليانصيب العجوز. هل اشتريت يوماً ورقة يانصيب في حياتك؟ أنا لم أفعل، مع ذلك أفكر دائماً بربح الجائزة الكبرى كي أنعم بحياة رغيدة، كما تقولون أنتم أهل الثقافة. انظر أمامك هذه هي الحياة الحقيقية التي نعيشها، وأنت؟
ماذا فعلت بك الأيام والكُتب يا رجل، أراك نحفت، واصفَّر وجهك، ألا تأكل جيّداً، أم أنّك تسهر الليل وتنام النهار مثل أهل التلفزيون والثقافة المعاصرة؟
- أنا ماذا؟
- أنت ماذا! هل حلَّت لك قراءة الكتب عُقد حياتك المستعصية أم زادتها تعقيداً؟ فأنا، كما أعرف، فاتك قطار الزواج، وها نحن بالصدفة نقف قرب "محطة سكة قطار الحجاز"، فماذا فعلت بك الأيام والكُتب يا رجل، أراك نحفت، واصفرَّ وجهك، ألا تأكل جيّداً، أم أنّك تسهر الليل وتنام النهار مثل أهل التلفزيون والثقافة المعاصرة؟ ما رأيك بكأس من الشاي في مقهى "النوفرة" نرتاح ونحكي كلمتين، عندي لك بعض الأخبار.
المشهد الثاني في مقهى النوفرة يشربان الشاي
- هل سمعت أو قرأت في ما تقرأ من كتب، بقصة الشاعر الصيني الذي كان تلميذاً كسولاً مثلي لا يحبّ الدراسة، ويهرب منها هروب السليم من الجربان. ولكن حدث مرة في سوق الحدادين، أن مرَّ برجل فقير ينحت قضيباً حديدياً شديد الغلظة والخشونة. فسأله ماذا يصنع فأجاب: أصنع إبرة. فدُهش الشاعر وسأل: كيف تصنع إبرة من قضيب حديد؟ قال: أنحت كلّ يوم مقداراً صغيراً منه وأصبر عليه أياماً وليالي حتى يستدق ويصير في قطر الإبرة. فرجع الشاعر مسروراً إلى منزله وانكبّ على الدراسة، حتى صار من أعظم شعراء الصين.
- كلا، لم أسمع بهذا الشاعر الصيني، وأنت من حكى لك هذه القصة؟
- هل تعرف كاتباً عراقياً اسمه، هادي العلوي، يسكن في ضاحية دمَّر؟
- هادي العلوي! لا لم أسمع به، ولم أقرأ له، من أين تعرفه أنت؟
- من أين أعرفه!؟ الصدفة جمعتني به، وأنتم أهل الثقافة تفضلون، لا أعرف لماذا، كلمة "مصادفة" ولا أريد أن أعرف لماذا. المهم، أخبرني ذات يوم أحد الجيران بأنّه يحتاج معلّم كهرباء وتمديدات صحية لإصلاح بعض الأشياء عند كاتب عراقي كبير. أنا فهمت أنه كبير في السن، طلع كبير القدر، فقلت له: "وصلت، تكرم عينك أنت والكاتب العراقي"، وذهبنا أنا وهو إلى ضاحية دمر.
- والله مانك قليل، تعرَّفت إلى كاتب عراقي، كيف تعامل معك؟
- كيف تعامل معي؟ مثل كلّ البشر، بلطف. وأزيدك من القصيدة بيتاً، وأنا أُصلح حنفية ماء المغسلة سألني هل أقرأ وأكتب. فقلتُ بلا تردّد: "أمّي" والحمد لله، فابتسم، والظاهر أنّ جوابي أعجبه، فحكى لي تلك القصة عن الشاعر الصيني الذي صار عظيماً.
يُسدل الستار.
معلومات على الهامش:
(1): ولدت فكرة خط سكة حديد قطار الحجاز في دمشق لأول مرّة عام 1864، الذي ينطلق من دمشق إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة في الجزيرة العربية. وتأخر تنفيذ المشروع حتى نهاية القرن الثامن عشر في عهد والي دمشق حسين ناظم باشا، ورجل الدولة الدمشقي أمين سر السلطنة أيامها أحمد عزة باشا العابد. كانت كلفة المشروع بالمجمل خمسة آلاف ليرة ذهبية عثمانية (وفقاً لويكيبيديا)، وجرت العناية بشكل واضح بمبنى المحطة، وهو من المباني الأثرية المميّزة في وسط مدينة دمشق.
(2): مقهى النوفرة من أقدم مقاهي بلاد الشام، يُطلّ على الجهة الخلفية الجنوبية للجامع الأموي، ويتكوّن من صالة داخلية تبلغ مساحتها 60 متراً مربعاً، تتسع لأربع وعشرين طاولة يجلس على كل منها 4 أشخاص. ويتكوّن أيضاً من صالة خارجية مساحتها ثلاثون متراً مربعاً تقريباً.
3- عاش هادي العلوي سنوات عمره الأخيرة، في ضاحية "دُمَّر" السكنية في مدينة دمشق. وعلى باب بيته تطالعك عبارة تقول: "مُرتقى الحضارتين". مات يوم الأحد في السادس والعشرين من سبتمبر/أيلول عام 1998، ودُفن في مقبرة "الست زينب" في ضواحي العاصمة السورية.