جوهاتسو

04 نوفمبر 2024
+ الخط -

كان يكتب ببطء ورويّة، ولا أقصد بالبطء هنا أنّه كان بطيئاً في الكتابة على لوح المفاتيح، كلا، كان سريعاً، ولكن أقصد أنّه كان يتمهّل في كتابة ونشر مادته، ويردّد بينه وبين نفسه قول المخرج الماليزي الكبير تساي مينغ ليانغ: "البطء (يقصد في الأفلام) شيء جميل للغاية مثل التقدّم في العمر". ولو أردنا أن نذهب إلى المواقع الإلكترونية لوجدنا له مادة مميّزة بتاريخ 30/3/2017 تحت عنوان: (أخطر رجل ماليزي حيّ) منشورة في موقع جريدة "المدن" اللبنانيّة الإلكترونيّة عن تجربة تساي مينغ ليانغ السينمائيّة.

ولو بحثت عن كاتب المقال فسوف تجد له قصة قصيرة بعنوان "ساتولا" في موقع "الأنطولوجيا" في السادس من إبريل/ نيسان 2018، وبعد ذلك لن تحصل من خلال بحثك عن كلمة واحدة جديدة، لأنّه، ويا للأسف، توقف عن الكتابة تماماً، واختفى، بعد أن كان يكتب ببطء خلال عشرة أعوام لكن بثقة الكاتب الكبير. وفي رأيي كان يمكن أن يكون من خيرة الصحافيّين العرب ويُعيد بسيرته سيرة الصحافيّ والقاص المُبدع فهمي حسين أو الصحافي الكبير أحمد بهاء الدين. أين اختفى هكذا فجأة؟ ستقول لي ابحث عنه في شبكة الإنترنت لا بد أن تجد خيطاً واهياً، هُنا أو هُناك، يوصلك إليه. بحثت يا صاحبي، وبحثت، لا فائدة، لقد اختفى.

هذا - على حدّ علمي - ليس الاختفاء الأوّل في هذه العائلة التي تمتد جذورها في مدينة إدلب في الشمال الغربيّ من سوريّة إلى القرن السابع عشر، حيث اختفى قبل مائة عام أحد أفرادها الذي كان يحمل نفس اسم الشخص المختفي الآن. وتسأل كيف ذلك؟ لا يُعقل أن يختفي الشخص مرتين. نعم يا صاحبي هذا ما حدث، فقد كان الاختفاء الأول في العائلة كما يلي: سيق محمّد إلى الجندية في الجيش العثماني، وشارك في حرب "السفر بر لك" الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كما صارت تُعرف لاحقاً، ولكنه لم يعد من هذه الحرب لا جسداً ولا خبراً. تقول بعفويّة: أكيد قتل. كلا يا صاحبي، لم يُقتل، كانوا أبلغوا أهله تلك الأيام. لا خبر عن موته أو أسره أو ظهوره في مكان ما، نعم لقد اختفى من الوجود، وترك أربعة أبناء يوسف وعثمان ومصطفى وبنت لا نحفظ اسمها. وها نحن نشهد بعد قرن من الزمان اختفاء أحد أحفاد أحفاده. فهل هي مُصادفة؟      

ونسأل هل بطل الاختفاء الجديد سئم حياته وعمل على الهروب منها، هل غيّر اسمه، واسم عائلته، والحي الذي يقطنه، ومدينته، وتخلّص من مشكلات عمله ومحى ماضيه كما تُمحى كتابة بالطباشير على سبّورة؟ هل فكّر في الهروب من الأعباء الأسريّة وتحمل المسؤوليّة؟ أو كان انسحاباً تكتيكياً من زواج فاشل، أو من ورطة ديون متراكمة؟ هل كان يبحث عن وطن بديل بعد أن لفظه وطنه الأم المُعذب بالثورة والتي تحوّلت بالتدريج إلى حرب أهلية؟ هل ضاقت خياراته حتى في أوراقه الثبوتيّة؟ هل فقد الانتماء إلى قومه ودينه وأصله وفصله؟ بكلّ صراحة لا أحد من أفراد العائلة يعرف السبب.

لو بحثت في الإنترنت عن كلمة "جوهاتسو" لوجدتها تعني في اللّغة اليابانيّة الاختفاء أو التبخّر، وأقرب معنى لها في اللّغة العربيّة "فص ملح وذاب"

وفي النهاية تبخّر ولم يترك أثراً يدل عليه. هل هو "فص ملح وداب" كما يُقال عندنا في البلد؟ هذه الظاهرة معروفة جيداً وشائعة في اليابان باسم "جوهاتسو" وقد ظهرت لأوّل مرّة في منتصف القرن العشرين، وتتسبّب في اختفاء ما يقارب من مائة ألف شخص سنويّاً في اليابان.

لو بحثت في الإنترنت عن كلمة "جوهاتسو" لوجدتها تعني في اللّغة اليابانيّة الاختفاء أو التبخّر، وأقرب معنى لها في اللّغة العربيّة "فص ملح وذاب"، ويقصد منها وصف ظاهرة اختفاء أفراد من حياة المجتمع طوعاً وبشكل مفاجئ ودون ترك خيوط تقود إليهم. وأعتقد أنه قد قرأ عن هذه الظاهرة وعمل على الامتثال لقوانينها، فاختفى. 

تقول الدراسات التي راجعتها في مختلف الصحف والمجلات والمواقع العربيّة والأجنبيّة إنّ عالم الاجتماع الياباني هيروكي ناكاموري اهتم بدراسة هذه الظاهرة في اليابان لسنوات عديدة، وأوضح أنّها ليست جديدة وإنّما يعود تاريخ بدايتها إلى منتصف سنوات القرن العشرين، عندما أُطلق الوصف لأوّل مرّة على أولئك الأفراد الذين رغبوا في الاختفاء من الحياة طوعاً، وكانت أغلب حالات الاختفاء حينها بسبب علاقات الزواج غير المريحة وقوانين ومعاملات الطلاق الصعبة في اليابان.

ترتبط الدوافع وراء ظاهرة "جوهاتسو" بالثقافة اليابانيّة الخشنة التي لا تعرف ولا تحب الفشل والانسحاب وتوصم المتخاذل بالعار. فبدأت الظاهرة بسبب صعوبة قوانين الانفصال في آسيا عموماً واليابان بشكل خاص، والعار الذي يحمّله لك المجتمع في حالة رغبتك في الانفصال عن شريك غير مريح، لاعتبار الطلاق فعلاً مستهجناً في الثقافة اليابانيّة وتهرّباً من المسؤوليّة. والظاهر أن "جوهاتسو" قد تخطت حدود اليابان وانتقلت للخارج، فهناك بعض التقارير التي تشير إلى وقوع الظاهرة في الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبيّة.

سئم الحياة، ففكّر في الاختفاء؟ ولكن في حالتنا هذه التي نرويها هُنا فإنّ المختفي قد عمل أكثر من عشر سنوات كاتباً صحافياً في العديد من الصحف السوريّة والعربيّة والمواقع الإلكترونيّة المُتميّزة وكان جاداً في عمله، وبذلك العمل ترك أثراً لا يمحى. وكلمة أثر في اللّغة العربيّة تدلّ على الفاعل. نعم، لقد ترك أثراً كمن ألّف كتاباً ونشره، فلا يستطيع مهما حاول أن يقتفي أثره كي يُلغيه من الوجود. وكذلك الأمر في عصر الإنترنت، هذه الشبكة العنكبوتيّة التي لا تستطيع في المجمل أن تدفن ما تركت فيها من أثر. والمختفي الذي نُحاول اقتفاء أثره من هذا الصنف، فقد ترك في العديد من الصحف - منها صحيفة "العربي الجديد" - والمواقع الإلكترونيّة العشرات من المقالات الصحافيّة، ثمّ اختفى، ذاب، كما يذوب فصّ ملح في كأس من الماء.

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.