هدمت ذلك الجدار ليتسع قلب أمي!
الجدار الأول
كان يفصل بيننا وبين بيت "أم رمزي" جدار. لم يكن ذلك الجدار ليمنعني من أن أدخل بيتها وأطلب منها شطيرة أو ماء أثناء اللعب، لأنّ بيتها أقرب، ولأنّ أمي مشغولة بالغسيل. كانت أمي تقضي يوماً كاملاً في غسل الملابس، تغسل الملابس ذات اللون الأبيض وحدها في ثلاث ساعات. أما "أم رمزي" فقد كانت سيدة صبورة وكريمة؛ كانت توّبخني إذا دخلت بالحذاء، ثم تجلسني على طاولة المطبخ الرخامية، وتسألني: "هل تحتاج أمك للمساعدة؟ قولي لها: لا عمل عندي اليوم؛ أنا متفرغة". وهي رسالة كنت أتجاهل إيصالها لأنني أعرف مسبقاً ردّ أمي عليها، ولأنني أريد العودة إلى اللعب. لم تكن لتخرجني من بيتها قبل أن أنهي الشطيرة.
لم يحدث ولو لمرة أن تسلّل صوت "أم رمزي" عبر ذلك الجدار؛ فقد كانت امرأة رائقة وهادئة وعاقلة. عندما انتقلنا إلى بيتنا الأّول في عمان، ظلّت عينها على بيتنا تحرسه وتعتني بالنباتات التي تركناها خلفنا، حتى غطى الخَضار الجدار الفاصل بيننا. وعندما توفيت "أم رمزي"، بكيت كثيراً. ماتت النباتات التي أخَذَتْ على عاتقها العناية بها، ولم أطرق بابا بعدها لأطلب شطيرة أو ماء. كان بابها الباب الوحيد الذي أطرقه بلا خجل.
الجدار الثاني
في عام 2017، وعندما قرّرنا الانتقال إلى بيتنا الثاني في عمان، كانت أمي تتعاطى مع الأمر ببرود. فهي إجمالاً، تفضّل البيوت الواسعة والأماكن "الشرحة" والهادئة. لم ترحب كثيراً بفكرة الانتقال. وعندما ذهبنا لنلقي نظرتنا الأولى على البيت الجديد، بدأت تغيّر رأيها، وبدا عليها السرور والموافقة الحقيقية على الرحيل؛ فالبناء جديد وعصري، والمنطقة رائقة. كانت سعيدة حقا حتى وصلنا إلى غرفتها. كانت الغرفة صغيرة ثانوية، لأنّ البيت مصمّم بحيث تكون غرف النوم في الأعلى، وأمي امرأة مقعدة لن تستطيع التعامل مع الأدراج بأريحية. دخلت أمي الغرفة وبدا عليها التردّد: "أهذه غرفتي؟!"، سألت بصوت منخفض. قلت: "نعم"؛ صمتنا. ثم قلت: "هل تبدو لك صغيرة؟" قالت: "لا بأس، ما حاجتي لغرفة كبيرة وأنا لا أتحرك؟!" قالتها برضا المستسلمين.
ظلّ الحوار يرتطم بجدران رأسي مخلفاً صوتاً رفيعاً حاداً، ويستمر ذلك الصوت لفترة بعد الارتطام. كان شعوري خليطاً من التقصير والذنب والغضب والخزي؛ فغرفتي في الأعلى "ماستر" واسعة وكبيرة بشباك واسع وشرفة، وغرفة أمي في الأسفل صغيرة وبشباك ضيق. حتى لمعت في رأسي الفكرة.
عندما توفيت "أم رمزي"، بكيت كثيراً. ماتت النباتات التي أخَذَتْ على عاتقها العناية بها، ولم أطرق بابا بعدها لأطلب شطيرة أو ماء
تواصلتُ مع الرجل الذي كنا سنشتري منه البيت وطلبتُ منه أن يهدم الجدار الفاصل بين غرفة أمي وغرفة السفرة. صارت الغرفتان غرفة كبيرة وصار لها شباكان وحمام ومنفذ إلى التراس الخارجي!
هدمت ذلك الجدار ليتسع قلب أمي!
الجدار الثالث
بعد الثورة/ الحرب السورية، وموجات اللجوء التي حدثت منذ سنة 2011، جاءت خالتي للاستقرار معنا في البيت الجديد، بطلب من أمّي. تركت بيتها وحياتها هناك بلا عودة سنة 2015. وصارت تتنقل هنا بين بيوت أخواتها في زيارات قصيرة، حتى طلبت منها أمي أن تستقر معنا ما دام في البيت متّسع لنا جميعاً، وفي ذلك راحة لها.
والحقيقة أنّ خالتي هي ممن ينشرون جواً من الراحة والنشاط ويملؤون فراغاً كبيراً بمجيئهم. والحقيقة أيضا، أنها آنست وحدة أمي وملأت عليها الحياة وخفّفت من نوبات الكآبة التي كانت تصيبها. صاحب ذلك توفّر هامش حرية لي لا يمكن أن أنكره، وصارت هي حلقة وصل إيجابية بيني وبين أمي. بعد سنة تقريباً، بدأت تشكو الملل، فاقترحت عليها أن يكون لها عمل مرن ودخل، مهما كان بسيطاً. ومن عملها مساعدةَ شيف، صار لها دخل، والقليل من العلاقات الجديدة، بالإضافة إلى وجود أغلب أخواتها هنا في الأردن. هكذا بدأت تعيد تشكيل حياتها، وتنمّي مواهبها. لكن هذا كله لا يمنع من أن تسمعها تتنهّد حين تستمع لصوت "صباح فخري" يتغنى بالشام وتقول "سقى الله!".
وجهها مبتسمٌ دائماً، وشهيتها دائماً مفتوحة للأحاديث، حتى لو طرقت بابها وجه الفجر، لكن أول مرّة رأيت فيها دموع خالتي وصمتها كانت في ليلة صيف جلسَت فيها خارج البيت وحدها. طال جلوسها فذهبت لأتفقدها، وإذا بها تبكي. جلست إلى جانبها طويلا دون أن أنطق بحرف، وكأن الحروف نفدت من فمي. بعد حين، نظرت إليّ وقالت: "أحنّ إلى جدران بيتي، كأنّ شيئا مني غادرني حين غادرتها."!