نمذجة السياسة النقدية: "ما أكثر الماضي يجيء غداً"
التعثّر الذي تعيشه السياسة النقدية اليوم قد لا يكون إلا ارتداداً لاعتماد البنوك المركزية على النمذجة الاقتصادية كأداة لقراءة ومحاكاة محيطها الكلّي، وكمساعد في اتخاذ القرارات التي تهمّ سعر الفائدة الموجّه. حيث إنّ هذا الارتكان لسعة النموذج على الإحاطة بمحيطه، يتم في نسيان كامل لجدوى وجوده وفي خيانة عمياء للأصل الذي يقلّده.
تكمن أهمية النمذجة الاقتصادية في قدرتها على ترجمة الاستشكالات التي يغصّ بها الواقع إلى لغة الرياضيات، بيد أنّ التناسق اللازم والضروري في تركيبة النموذج وبنيته، يبقى الأهم بالنسبة إلى المستخدم والقارئ. وبالرغم من إقحام البعدين السيكولوجي والسوسيولوجي في عدد غير هيّن من النظريات الاقتصادية المعتمدة في بنائها على الرياضيات، باعتبارها لغة تعبير، إلا أنّ الحلول الجبرية والتحليل العددي يشكلان المرجع النهائي في معالجة نظم المعادلات التي يفضي إليها هذا النوع من التنظير. ولعل الرياضيات نفسها تفرض منطقها في سردية العلاقات بين الفاعلين الذين يدج بهم النموذج الاقتصادي.
ومهما استعصت أنساقها على الفهم البسيط وتعالت حبكاتها على اليومي المعاش، تنأى النماذج المعتمدة من طرف صانعي السياسة النقدية عن البوح بما سيكون، أو حتى بما كان. فهي لا تشير إلى الآتي القريب قدر ما تصنع غدها المحض. وتعقيدها يظلّ في كثير من الأحيان تعقيداً تجريدياً بعيداً عن التقعيد النظري لما هو إمبريقي، ما يجعل النمذجة الاقتصادية متمرّدة على الواقع الذي يحاصرها، ومنتجة لواقع افتراضي تتفرّد به، ولربما تفرضه على دنيا الناس. وبالتالي فقدرتها الاستشرافية، تبقى رهينة فرضيات ومسلمات لا تحيل إلّا على سيناريو محتمل.
والخطورة تكمن حين يتم تأثيث هذا السيناريو بقرارات مصيرية لا تمليها الموازنات الماكروقتصادية، قدر ما يمليها واجب الامتثال لقداسة التوازنات الرياضية. فرفع سعر الفائدة الموجّه، متى كان مطاوعة لسيناريو موجة تالية من التضخم المطرد، ليس إلا استشرافاً لقادم يعبد الماضي وتقويضاً للحاضر بغد قد لا يجيء.
هذا الارتكان لسعة النموذج على الإحاطة بمحيطه، يتم في نسيان كامل لجدوى وجوده وفي خيانة عمياء للأصل الذي يقلّده
إلا أن هذا الانقطاع العرضي عن الواقع لا يمكن أن يكون مطية للتنصّل من التقنية الضرورية في هندسة السياسة النقدية. فالعمل الذي تقوم به المراكز البحثية، سواء منها الأكاديمية أو التابعة للبنوك المركزية، يجب أن يتواصل قصد تجويد وتحيين النمذجة الاقتصادية، في محاولة مستمرة لإعادة الاتصال بالواقع وإعادة صياغته. والمرام هو مقاربة الإنسان في شموليته دون إلغاء الإنسان اللحظي، بمزاج من الفردانية والبنيوية، وفي إطار يبرز الخصوصي ولا يلغي المشترك، يقرّ بسلطة المصلحة وسيادة الفكر المنفعاتي، دون أن يتوجس من الوجداني ودون أن يحجب اللاعقلاني.
الحال إذن، أنّ تنزيل السياسة النقدية لا يزال يتم في ضوء نماذج اقتصادية يغلب فيه المبنى على المعنى، مثلما يهيمن فيها النظري على العملي. والواقف أمام السيناريوهات التي تعيد هذه النماذج إنتاجها، على قدر تشعبها وشدّة تعقيدها، قد يسمع محمود درويش يتلو "ما أكثر الماضي… يجيء غداً". عذراً إذن إن كنا لا نشبه أنفسنا في السيناريو المقبل، فنحن لسنا سوى الأصل مما نشبه. وإذا كنا نستكين لنبوة الأعداد ونهيم بما وهمت، فالعيب فينا وليس فيها. بمَ التَعَلُّلُ ونحن نريد من نمذجتنا ذي أن تُبلِّغنا ما ليس تبلغه من نفسها النمذجة؟!