أزمة الشيكل، أو العائم الذي قد يغرق
يوم الاثنين 9 أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، وفي سابقة من نوعها منذ تبنيه نظام سعر الصرف العائم، أعلن البنك المركزي الإسرائيلي عن برمجة عمليات بيع ما مجموعه 45 مليار دولار أميركي مقابل العملة المحلية "الشيكل". من جهة، ينبغي إيضاح أنّ التعامل مع هذا القرار من زاوية الحدث غير المسبوق، لا ينحصر حول واقعة التدخل في سوق العملات، لأنّ البنك المركزي له سوابق عديدة كَمُؤثِّر في دينامية العرض والطلب، بالرغم من طبيعة نظام سعر الصرف الحر الذي تعتمده إسرائيل. فالجديد والمتفرّد في هذا الإعلان، مرتبط أساساً بطبيعة وحجم التدخل المبرمج، وهذا ما يتناوله المقال في شقه الأوّل.
من جهة ثانية، التزامن بين هذا الإعلان وإعلان نتنياهو دخول إسرائيل حالة الحرب يحيل إلى علاقة سببية بين الاثنين في سياق ظرفي معيّن، بيد أنّ قرار بنك إسرائيل كان متوّقعا لأسباب تكاد تكون بنيوية وتهم بالأساس المنحنى التنازلي لقيمة الشيكل منذ ما يقارب السنتين، وهذا ما يوّضحه الشق الثاني لهذا المقال.
بداية، وجب التذكير بأنّ أهمية التبادل التجاري بين إسرائيل وحليفها الأميركي وحجم الاستثمارات الخارجية في ميزان مدفوعات الطرفين، بالإضافة إلى عوامل أخرى جيوسياسية، ساهمت بشكل مشترك في ترسيخ حرية إبدال الدولار الأميركي بالعملة الإسرائيلية الشيكل، وذلك دون أدنى قيد أو تسقيف. علماً أنّ القيمة التبادلية بين العمليتين، هي ما يُعرف عليه بسعر الصرف الثنائي شيكل\دولار. وحسب صندوق النقد الدولي في تصنيفه السنوي لأنظمة سعر الصرف المعتمدة رسمياً، وفعليا لدى أعضاءه، فالشيكل يخضع لنظام سعر الصرف العائم منذ 1997. ما يعني أنّ تقلبات العملة الإسرائيلية على المدى القصير تعكس استجابة العرض للطلب في السوق النقدية الداخلية، كما أنّ المنحى الذي تتخذه على المدى المتوّسط يطيع التوازنات الماكرو اقتصادية المتماهية مع محيطها الخارجي. ظاهراً، يبدو هذا صحيحاً بحكم القانون والإطار التنظيمي للأسواق النقدية والمالية بإسرائيل. فقيمة الشيكل المعبّر عنها بالدولار، ليست إلا متوسط عروض الأسعار بين البنوك، وهي وإن كانت مرجعية في تحديد أسعار الصرف مقابل العملات الأجنبية الأخرى، تبقى قيمة تمثيلية-إرشادية، وغير ملزمة بأيّة حال من الأحوال.
يصبح الحذر من العملة الوطنية والميول إلى "دولرة" المعاملات التجارية والمالية أسلوب تعبير عن تراجع الثقة في سيادة الدولة وارتداداً في مصداقية مؤسساتها، وهذا ما يحدث في إسرائيل اليوم
أما بحكم الأمر الواقع، فالشيكل ينأى عن منطق العرض والطلب وعمّا تقتضي دينامية السوق الحرّة، نظراً لطبيعة وحجم التدخلات التي يقوم بها البنك المركزي الاسرائيلي، لا لسدّ حاجاته الذاتية من عملات أجنبية، بل وفقاً لحسابات قبلية تتماشى مع أهداف ماكرو اقتصادية محدّدة سلفاً. وبالمراعاة لقدرته الشرائية الهائلة، فقد يتحكّم البنك المركزي في وتيرة واتجاه تقلبات سعر الصرف، تماشياً مع الاتجاه العام للسياسة النقدية المتبعة، وأحيانا كثيرة عكس ما تمليه توازنات الأسواق المالية. ومنذ دخول نظام سعر الصرف العائم حيّز التنفيذ، قام البنك المركزي الإسرائيلي بالعديد من عمليات بيع الشيكل مقابل الدولار، أولها عام 2008 غداة الأزمة المالية، وآخرها عامي 2000 و2001 في سياق الأزمة الصحية. الهدف وراء هذه العمليات لم يكن سوى تقوية العرض أمام الطلب، وبالتالي خفض ثمن الشيكل في سوق العملات. وهذا ليس إضعافا للشيكل قدر ما هو تحكّم في المنحى التصاعدي الذي كان يتخذه. إسرائيل حينها كانت مقتنعة بأنّ الارتفاع المستمر لسعر الصرف مضرّ بميزانها التجاري من حيث وقعه على قيمة الصادرات وتأثيره السلبي على الاستثمارات الخارجية بالدولار. لذا فضلت أن تسبح ضد التيار، مستفيدة في ذلك من غياب الآثار الجانبية لاختيار كهذا، وعلى رأسها التضخم المستورد. وقد أوقف البنك المركزي الاسرائيلي هذه العمليات نهاية 2021، متحصّلاً من خلالها على احتياطي خارجي يناهز %46 من الناتج الداخلي الخام الإسرائيلي.
لم تكن حركة حماس سبباً محضا لردة فعل بنك إسرائيل، لكنها حدّدت التوقيت لرد فعل لم يكن منه بد
لذلك فنشاط بنك إسرائيل في سوق العملات ليس بالجديد، بيد أنّ المتفرّد في إعلان 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يكمن في القيمة غير المسبوقة لخطة تدخله، والتي تقارب 45 مليار دولار أميركي، كما يتجلّى في طبيعة تدخله المرتقب كمشتري للشيكل، مخالفاً بذلك لموقفه المعتاد كمشتري للدولار الأميركي. ودون الخوض في الحيثيات التقنية لهذه الخطة، تكفي الإشارة إلى أنّها ستمكن من ضخ سيولة في السوق النقدية وذلك عبر قناتين، الأولى تتمثل في عمليات بيع مباشرة لما يعادل 30 مليار دولار أميركي مقابل الشيكل. بالإضافة إلى قناة ثانية من خلال تنفيذ صفقات تبادلية (SWAP) بقيمة تصل إلى 15 مليار دولار وفقًا للحاجة. أيّ أنّ بنك إسرائيل يصطف، ولأول مرة، بجانب الطلب وليس العرض، ساعياً بذلك إلى افتعال ندرة للشيكل واختلاق فائض من الدولار، ما من شأنه التأثير على قانون السوق. فطالما كان الطلب على العملة أكثر من العرض أو يجاريه على الأقل، كان من الممكن تفادي أيّ تدني محتمل لقيمتها ومجابهة خطر انهيارها.
فيما يخصّ التوقيت الذي اختاره البنك المركزي لإعلان خطة تدخله في سوق العملات، فلا يمكن قراءته خارج الزمن الحربي لإسرائيل. إذ إنّ حالة الفزع التي بثّها الهجوم العسكري الذي قادته حماس، وشعور اللايقين الذي خلفه إعلان حالة الحرب كردّة فعل آنية ومرتجلة، دفعا بالكثير من المستثمرين في الأسواق المالية إلى محاولة التخلّص من الأصول والقيم المنقولة بالعملة المحلية. وفي مثل هذه الحالات من الخوف، يفرّ المرء بحثاً عن مناطق يراها آمنة، ليظلّ الدولار الأميركي، بالنسبة لمعظم المتدخلين في سوق العملات، القيمة الملاذ. كما أنّه من المحتمل، أن يكون هذا السلوك الجماعي دليلاً ملموسا على أزمة ثقة في بنك إسرائيل، باعتباره الجهة المكلفة بصك العملة، وباعتبار الأخيرة رمزاً وسنداً لعلاقة ثقة بين المجتمع والدولة. عندئذ، يصبح الحذر من العملة الوطنية والميول إلى "دولرة" المعاملات التجارية والمالية أسلوب تعبير عن تراجع الثقة في سيادة الدولة وارتداداً في مصداقية مؤسساتها. هكذا إذن، استشعر بنك إسرائيل حركة ذعر واسعة النطاق، فيما يشبه عروض بيع بالجملة للشيكل، فقرّر إجهاضها عبر إعلان خطة بيع ما يصل إلى 45 مليار دولار أميركي.
ّقيمة الشيكل الإسرائيلي العائمة ما فتأت تصارع الغرق طيلة الأسبوع المنصرم
غير أنّ التزامن بين تدهور النفسية الجماعية للمتدخلين في الأسواق المالية من جهة، وإعلان خطة البنك المركزي من جهة أخرى، لا يجب اختزاله في علاقة سببية كافية لتفسير المتغيّر الثاني بالأول. فلكلّ منهما ديناميته الخاصة والتزامن بينهما لا يعدو أن يكون سوى نقطة تقاطع وملتقى طرق بين سيرورتين مختلفتين. فبالرجوع إلى منحنى سعر صرف الشيكل، نجد أنّ بداية الاتجاه التنازلي للعملة الإسرائيلية، تعود إلى مطلع 2022، وهو اتجاه تنازلي يمكن تفسيره بالتراجع الذي عرفه الاحتياطي الخارجي من العملات الأجنبية جرّاء تدفق رؤوس الأموال نحو الولايات المتحدة، مباشرة بعد قرار الفيدرالي الأميركي رفع سعر الفائدة للتصدّي لموجة التضخم العالمية. تلك الموجة التي لم تستثن إسرائيل، والتي تركت آثارها على مؤشر أثمان السلع الاستهلاكية، علماً أنّ الانخفاض المستمر لسعر صرف الشيكل يزيد من حدّة تمرير تكلفة مدخلات الإنتاج المستوردة إلى معدل التضخم المحلي. هذا الأخير لا يزال يتجاوز 4%، وهو رقم خارج نطاق من 1% إلى 3% الذي يجب على بنك إسرائيل السعي لتحقيقه. بناء على ذلك، فإعلان 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، رغم تزامنه مع الهجوم العسكري الذي شنته حماس، كان حتمياً ومنتظراً. وخلاصة المقال، أن حماس لم تكن سبباً محضا لردة فعل بنك إسرائيل، لكنها حدّدت التوقيت لرد فعل لم يكن منه بد.
ختاماً، يعلم خبراء الاقتصاد، كما لا يخفى على غيرهم، أنّ مجرّد الإعلان عن سياسة واضحة المعالم وحده كاف في أن يؤثر في السلوكيات الاستشرافية للفاعلين الاقتصاديين، ومن خلالها، في ردود أفعالهم الاستباقية. وقد كان من المنتظر أن لا يشذ إعلان بنك إسرائيل عن هذه القاعدة، وأن يوقف الطوفان. بيد أن ّقيمة الشيكل العائمة ما فتأت تصارع الغرق طيلة الأسبوع المنصرم، ليصل سعر الصرف المصرّح به رسمياً يوم الجمعة 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي أربعة أيام بعد الاعلان، إلى 3,97 شيكل للدولار الواحد، وهو أدنى مستوى له منذ يناير 2016.