من داخل فيينا

21 يوليو 2022
+ الخط -

ذكريات بغيضة ظلت متعلّقة بمدينة فيينا التي عشت فيها نحو ثماني سنوات متصلة، بعدما غادرت ولاية لويزيانا الأميركية وأقمت في عاصمة النمسا بعد حصولي على الإقامة الدائمة فيها.

أقمت في بداية المشوار ثلاث سنوات في الحي الأول برفقة أسرتي، وبعدها انتقلت للإقامة في الحي الرابع الذي لا يبعد عن الأول مسافة بعيدة. الحيان الأول والرابع لا يفصل بينهما أي شيء بالمطلق، وهما شبه حيّين متلاصقين بعضهما ببعض.

الحي الأول إضافة إلى الحي السادس يُعدّان من أجمل ما تضمّه المدينة من محال تجارية وتسوّق وفنادق عالمية، إضافة إلى قصر هوفبورغ، مقر الأسرة الحاكمة في فيينا منذ القرن الثالث عشر حتى العام  1918، وبعض السفارات الحكومية، والبرلمان، والمتحف الوطني، وكاتدرائية شتيفان بلاتس القوطية الطراز، الأشهر في فيينا، إضافة إلى المقاهي الشهيرة بالمأكولات المحلية الشهية العديدة، فضلاً عن أماكن الجذب الموسيقية والثقافية العالية المستوى في قاعاتها التي تقام فيها الحفلات الموسيقية، ومتاحفها، ومسارحها – بدءاً بالقاعة الذهبية قاعة الميوزيك فيرين إلى الأوبرا الحكومية، ناهيك بتمثال الموسيقار موزارت، والماركات العالمية المختلفة للعطورات والساعات. كذلك تشكل فيينا بصورة عامة عنوان الملذات الحسية، بتقاليدها التي وسمت مقاهيها على مدى القرون، ومطاعمها وحاناتها. فما يربو على نصف المدينة تكسوه المساحات الخضراء التي تضم الحدائق العامة والخاصة.

الإقامة في الحي الأول تظل لها نكهتها الخاصة، وقد عشت في شارع مارك أوريل شتراسه لمدة ثلاث سنوات، وبعد حصولي على الإقامة والانتهاء من إجراءات لم شمل الأسرة بعد متابعة إدارية مستفيضة استمرت حوالي تسعة أشهر، وإحضارهم من سورية، وفي مطار فيينا الأنيق استقبلت زوجتي وأفراد أسرتي، وكان لقاء حميمياً بعد غيابي عنهم الذي استمر لأكثر من عامين وأربعة أشهر.

في الحي الأول أكملت ثلاث سنوات برفقتهم، في شقة صغيرة في الطابق الخامس مكوّنة من غرفة كبيرة، وأخرى صغيرة، بالكاد كانت تجمعني مع أم البنين.. وكانت غرفة المعيشة الوحيدة في البيت، وفيها تتكدّس أسرّة الأولاد وملحقات النوم، من لحف وأغطية وغرفة ثالثة صغيرة جداً خاصة بالثياب.

في غرفة المعيشة نستقبل ضيوفنا ومعارفنا وأصدقائنا، وكنا نواجه الكثير من الإحراج، ولكن مكرهٌ أخوك لا بطل. في هذه الظروف القاسية، لم نخرج منها إلّا بعد الانتهاء من عقد إيجار البيت، الفترة المخصصة للإقامة فيه، حاولنا مراراً البحث عن دار سكن تكون أكثر اتساعاً من تلك التي قضينا فيها أشهراً، ولكن هيهات، كان فيها الكثير من الصعوبة، ويسألك الأصدقاء في سورية "نيّالك" هَجرت سورية وطلقت الفقر وأنت الآن تقيم في فيينا، بلد الجمال والأناقة، وأردّ عليهم نعم إنها المدينة الساحرة لأهلها. إلا أنَّ الواقع شيء والذي نسمعه عنها شيء آخر. تحمّلنا الإقامة التي أجبرنا عليها على مضض، وصاحبة البيت تعاملنا بازدراء، وفي زياراتها القصيرة للاطلاع على واقع الشقة كانت تحمل معها أطناناً من التعليمات والتوجيهات، والتهديد بإخلاء البيت، وهو بالكاد يمكن أن نطلق عليه بيتاً. شقّة صغيرة جداً لا تتجاوز مساحتها الـ80 متراً مربعاً، ويقيم فيها ثمانية أشخاص.

في تلك الشقّة تمت خطوبة إحدى بناتي، وحضر للاحتفال بالخطوبة وبعدها للعرس بعض الأصدقاء، لم يتجاوز عددهم أصابع اليدين، إلا أن المعاناة كانت كبيرة جداً، وتحمّلنا "قرفها" على مضض نتيجة الازدحام الشديد الذي وصل إلى حد الاختناق.

كان منظر الضيوف مخجلاً. اضطروا إلى الجلوس على أسرة النوم الخاصة بالأبناء التي تحيط بجدران الغرفة، وأخذ كل واحد منهم دوره بافتراسها والانقضاض عليها، وأخذ مكانه بحذر ليتمكن من تأمين المكان الذي يمكن معه أن يذهب عنه بعض المعاناة ومتابعة الحفل المتواضع .

مضت تلك الليلة على خير، وزفّت العروس إلى عريسها وعادت الحياة إلى طبيعتها، وتحمّلنا الإقامة في تلك الشقّة التي تطل من خلال بلكونها الوحيد على الساحة الخلفية للأبنية المحيطة بها، ولا يمكن الاستفادة منها إلّا في حال أرادت زوجتي تنظيف الشقة، عليها أن تقوم بنشر حرامات المنامات والسجادات على سورها الحديدي في فترات متقطعة، وتعريضها لأشعة الشمس التي بالكاد نشاهدها بأكمل صورها في فيينا.

وحتى هذه الخطوة، التي نعلم جميعاً أنها عادية جداً لم تلقَ قبولاً من الجيران البعيدين عن بلكون الشقة، فما كان من بعضهم إلّا أن قاموا بتصوير إحدى السجادات المعلقة على البلكون التي عرضتها زوجتي لأشعة الشمس. هذا الإجراء وحده لم يكن يرضي صاحبة الشقة، القاضية التي تعمل في محاكم فيينا، فما كان منها إلّا أن أرسلت عبر البريد الإلكتروني رسالة شديدة اللهجة تحذّرني من تكرار هذا الفعل الذي يُعدونه ممنوعاً وتجاوزاً غير مَرضي عنه، وهذا لا يجوز فعله. البلكون فقط للتهوية، هذا هو العرف السائد بالنسبة لهم. استغربت حقيقة ما قالته في رسالتها، وأكدت على أنها ستزورني في الشقّة بعد أيام وتعرض عليّ ما حدث، والتأكد من ذلك بنفسها، فطلبت مني تحديد موعد أؤكد فيه استعدادي للقاء بها، ووضع النقاط على الحروف، وما فعلناه كثيراً ما يثير الجيران، في حال تكررت هذه الحالة، وآمل أن لا تتكرر، وفي قادم الأيام سأضطر إلى فسخ عقد الإيجار، وهذا من صلاحيتي، حسب شروط العقد المذيلة في نهايته.

تصرف ينمّ عن حماقة وعن جهل غير عادي من قبل إنسانة متعلمة، ومرتبتها توازي مرتبة وزير. إنّها قاضية، وتمثل في الهيكل الإداري أعلى مرتبة، وهكذا تتصرف مع مستأجر لاجئ قدم إلى البلاد يبحث عن الأمان والاستقرار فيه.

قبل أن تنتهي الفترة المحددة للانتهاء من عقد الايجار تمكنت من الانتقال إلى شقة ثانية في الحي الرابع، وتتبع لشركة بناء وأقمت فيها مع أفراد أسرتي، ولم أتعرض فيها طوال السنوات الأربع التي قضيتها لأي مضايقات سواء من قبل الشركة مالكة الشقة، أو لأي تنبيه كان، باستثناء تنبيه واحد من قبل جارة طاعنة في السن تقيم وحيدة في شقة مستقلة.. وتم تلافي ملاحظتها بالتعاون مع الشركة التي سبق لها أن خاطبتني بما حصل.

ملاحظة تافهة جداً لا تستحق الذكر، إلا أن ما يمكن أن نستخلصه من كل ذلك أنَّ بلادنا، وإن كان حكامها غليظين في التعامل مع أبناء جلدتهم، ويعاملونهم المعاملة السيئة التي لا تليق بتاتاً مع أصول الحياة التي يعيشون، إلا أنهم كانوا يعيشون في بيوت وشقق واسعة، وبعيدين عن الملاحظات التافهة من قبل المؤجرين والجوار، والعيش ببساطة، إلا أنهم كانوا يفتقدون للأمان وعدم الاستقرار، وملامسة الفقر وعدم الراحة، وفوق ذلك الكيل بمكيالين بين زيد وعمر من قبل السلطات الحاكمة. وهذا حالهم!

دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.