من الطنطورية إلى غزّة: ذاكرة الجرح الفلسطيني الممتد

08 ديسمبر 2024
+ الخط -

"الطنطوريّة" رواية قرأتها مرتين وأبكتني في كل مرّة. في المرّة الثانية تحديدًا قرأتها بالتوازي مع نكبة فلسطين الثانية 2023-2024. قرأتها ورأسي يصطك ببعضه من هول زخّات الرصاص في خيمة لا تقي حرّ صيف ولا برد شتاء ومدافع وقنابل لا تكفّ عن ولادة الموت. لن أقول كيف استطاعت رضوى توصيف معاناة الفلسطينيّين آنذاك بهذه الدقّة على الرغم من بعدها الجغرافي والمكاني عن حدث النكبة نفسه 48؛ لأن قارئة جيّدة في التاريخ بحجم رضوى لا يصعب عليها الكتابة عمّا حلّ بالفلسطينيّين على طريقة الرواية في بعديها التاريخي والأدبي. إنّ أي قراءة في مشروع رضوى عاشور الأكاديمي والإبداعي والنقدي لا يتأتّى إلّا من خلال "دراسة مفهومها عن دور المبدع الذي يقف تحت الشجرة الوارفة شجرة اللغة والتراث والتاريخ والتجربة". (الخولي، 2018)

تأخذنا رضوى مع رقيّة بطلة الطنطورة في رحلة طرد الفلسطينيّين من أرضهم في نكبة الـ1948 وما عاشوه من ظروف صعبة بسبب التهجير، أتأمّل الشتات الفلسطيني والعائلة التي تناثرت. ينفرط العقد فتتدحرج مصائر الأبناء بين القارّات بغير اتّساق أو اتّفاق. لكنّ رقيّة كما هو الحال تحتفظ بمفتاح الدار. تعلّقه في رقبتها رغم علمها أنّ الدار قد هُدمت وأنّ الأرض قد سُرقت.

تحكي لنا رقيّة عن فقدانها للأب والأخوين في اجتياح 1948، لتبدأ من هنا فصول اللجوء. ثمّ تفقد زوجها الطبيب في مستشفى عكّا خلال الاجتياح الإسرائيلي وجرائم صبرا وشاتيلا على أيدي العصابات الصهيونيّة وكتائب سعد حدّاد. تقف في حيرة الاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ. البقاء في مخيّمات لبنان أملًا بالعودة إلى الوطن أو الدفع بأبنائها للمغادرة دونها بعيدًا عن الموت المحتّم. يرحل صادق إلى أبوظبي، يسافر حسن إلى مصر ليدرس قبل أن يستقرّ في كندا، ويذهب عبدالرحمن إلى فرنسا. الصبية الثلاثة الذين صاروا رجالًا يقاوم كلّ منهم بطريقته. صادق الثري ينفق على أطفال المخيّم ويتبنّى بعضهم في التعليم. أمّا حسن يأخذ على نفسه الكتابة لأجل من تشرّدوا. لأجل أطفالٍ بلا منازل. لأجل من دافع واستشهد. بينما يطلب من أمّه رقيّة أن تكتب تفاصيل قصّتهم فتكتب عن طفولتها الجميلة في الطنطورة وأثر التهجير على حياتها إذ تمثّل رقيّة تجربة العائلة بأكملها وقصّتها المعبّأة بالمعاناة والشتات بعد أن تجاوزت صدمة التهجير، لتمنحنا ولادة هذه الرواية. تعرّفنا على غربتنا. تسرد لنا تفاصيل حكايتنا وما نتج عنها من تغريبة. تظهر القدرة على لمس ذلك الجزء العميق منّا. بيد عبد الرحمن الذي قرّر أن يسلك طريق المطالبة بالحقوق عبر المحاكم الدوليّة، وبذلك ظلّت المقاومة مستمرّة، وإن تشرّدت العائلة بين قارّات العالم. مريم التي تبنّاها أمين بعدما أفنت الحرب كامل عائلتها، تظلّ برفقتها، تراقب كلّ منهما تطوّرات الأخرى، دون أن تخبرنا رضوى إن كانت مريم على دراية بحكايتها الأصليّة، أم أنّها اقتنعت بكونها جزءًا من عائلة الطنطوريّة.

وبالمقاربة مع ما أنتجه أدب المقاومة حول النكبتين، الفلسطينيّة واللبنانيّة وما تمّت صياغته من روايات عن نكبة الفلسطينيّين ومأساة لبنان على حدّ سواء ممثّلة في أعمال كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وإلياس خوري، ومرويّات الملهاة الفلسطينيّة لإبراهيم نصر الله وغيرهم. إلّا أنّ في حكاية رضوى وقعاً مختلفاً داخلي عمّا سواها؛ لأنّ نصًّا آخر لم يبكني كما فعلت رضوى ربّما لأنّها عرفت كيف تتسيّد واقعنا وتقلّب في هوامشه. ربّما لأنّ بروايتها هذه تشكّل مفتاحًا لفهم مدى التصاقها بالقضيّة الفلسطينيّة، والذي تجذّر مع زواجها بالشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي. وكيف أنّها تحثّني دائمًا ألّا أستسلم لليأس واللاجدوى فأنهض من خيبة بعد أخرى. وتعزيز الوعي الجمعي بأنّ في قدرة المرء مهما تعرّض لآلام غائرة أن يتعافى بالعناد مرّة وبالتمرّد عليها بسهولة أو حتّى مجابهة الواقع بالسخرية منه أو حتّى في خلق واقع جديد على الورق. تقول رضوى عاشور في صيّادي الذاكرة:

"عندما غادرت طفولتي وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمّي وعمّتي وجدت بداخله هزيمتهما، بكيت... ولكنّي بعد بكاء وتفكير أيضًا، ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة. عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: (ماذا لو أنّ الموت داهمني؟). ساعتها قرّرت أنّني سأكتب لكي أترك شيئًا في منديلي المعقود، كذلك لأنّني انتبهت – وكنت في الرابعة والثلاثين من عمري – أنّ القبول بالنسبي أكثر حكمة من التعلّق بالمطلق، وأنّ الوقت قد حان للتحرّر من ذلك الشعور بأنّ عليّ أن آتي بما لم يأتِ به الأوائل، أو أدير ظهري خوفًا وكبرياءً"(نبيل، 2018)

أحاول الكتابة كما فعلت رضوى آنذاك. أن أواصل الحياة بصفتي ناجية مؤقّتة في مدينة غزّة لا ضحيّة. امرأة قويّة لا خيارين أمامها سوى المحاولة وشرف المحاولة مرّة أخرى. أنظر إلى كلّ ما مضى. أحاول أن أبتلع المرارتين. مرّة أبتلع فيها تفاصيل حدث نكبة 48 الذي جسّدته رضوى في روايتها. ومرّة أخرى في ابتلاع الواقع الذي صنعته الإبادة على غزّة من امتداد للنكبة ومعاناة التهجير القسري والنزوح. أمرّ كلّ يوم في نشرة الأخبار وأتساءل: ما الذي يبرّر كلّ هذه الأكفان؟ كلّ هذه الدماء؟ هل هو الصراع على السلطة؟ نعم هو صراع دموي على السلطة. أجاهد في لجم دموعي. ولكنّني مع كلّ بداية نهارٍ جديد أمسح دموعي وأنتحي جانبًا من الخيمة وأنتحب.

لست في مجال الحديث عن حزني المركّب إزاء حرب الإبادة الجارية في غزّة. ولا عن حساب المكسب والخسارة وعثرات الحكومة في غزّة ولا خيبات الأمل المتلاحقة في أدائها. ولا عن تكرار الخطاب الإعلامي السائد وهو خطاب يكاد ما فيه من أكاذيب يصل إلى حدّ المسخرة. ولكنّني أردت أن أقول وبوضوح أنّ سوء الوضع الراهن في غزّة، والإنساني على وجه الخصوص منه، وقتل المئات يوميًّا من المواطن الغزّي بطرق شتّى يعطي المشروعيّة للمواطن بثورة على سطوة أي سلطةٍ قابضة ومواجهة القسوة الخانقة.

وما بين الأدب والواقع، يظهر أنّ القضيّة الفلسطينيّة ليست مجرّد مأساة تاريخيّة، بل هي رواية مفتوحة تُضاف إليها فصول جديدة كلّ يوم. يبقى السؤال الذي يطرحه الأدب والحرب معًا: هل سيظلّ العالم يقرأ هذه المأساة بصمت؟

ريما القطاوي
ريما القطاوي
ريما القطاوي، كاتبة روائية، وباحثة في الشأن العام عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، تدور اهتماماتها البحثيَّة حول القضايا العامَّة المعاصرة ودورانها في عوالم الصحافة، صدر لها رواية "كلنا على سفر".