لأن على شيء من هذه المدينة أن ينجو سأظل أكتب!

04 يناير 2025
+ الخط -

منذ أكثر من عام ونصف يصارع الصحافيون في قطاع غزة انتهاكات الاحتلال من الاحتجاز، والخطف، والقتل المكثّف، والتشرد، والنزوح، والاعتقال، والتعذيب، والخوف اليومي، والتجويع وغيرها من الانتهاكات على مستوى مروع. وبالرغم من كل ذلك يقف الصحافي في كل يوم يتساءل: كيف نخرج من هذه العتمة وسط الخيبة والقهر ومن فوق الأنقاض؟

إذا سمح لي بتنحية الحديث المهني بحديث شخصي لا بدّ لي أن أقول إن خبر قتل إسرائيل للصحافي الغزّي ومراسل قناة القدس أيمن الجدي وفيصل أبو القمصان برفقة عدد من الزملاء الصحافيين من أسوأ ما كتبته خلال حرب الإبادة.

قضت إسرائيل على أيمن الجدي الذي كان يترقب أن تضع زوجته مولوده الأول بمستشفى العودة بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، فرحل تاركاً زوجته وابنه وراءه. والطالب في كلية الإعلام فيصل أبو القمصان الإنسان الخلوق الذي لطالما جعلني أفكر في معنى ما نصنعه بتوثيق التفاصيل الصغيرة التي يعانيها أهلنا في القطاع نحن الصحافيين قيد التدريب، تحديداً حين يكون الصحافي داخل بؤرة النار وليس خارجها. كتفاصيل أصغر من أن تظهر في نشرة الأخبار، تفاصيل تشبه النهوض من الفقدان في ظل هذا الخراب، والمشاهد المؤلمة لأسر محطمة وأطفال يركضون في شوارع مدمرة، ونساء يحملن أعباء نفسية ثقيلة، والتكاليف الخفية وراء هذه القصص والمشاهد في الوقت الذي تركز فيه وسائل الإعلام على الدمار المادي والخسائر البشرية.

نحاول في كل مرة بما تعلمنا ونتعلمه من ميدان الحياة الذي اسمه "غزة" ولا نعرف هل نجحنا أم لم ننجح في تحقيق التوازن المطلوب، والتجرد من الذات الذي لا بدّ أن يتحلى به الصحافي؛ لإيصال الواقع إلى بر العدالة. ولكننا نعرف أننا بكل ما نمتلكه من أدوات بسيطة نحاول بمنتهى الأمانة ألا نكون متحيزين برغم خياراتنا الشخصية بصفتنا أشخاصاً قبل أن نكون كتاباً ومحررين صحافيين ومراسلين.

أنظر لكل الصحافيين الذين تقتلهم إسرائيل، وأفكر بكل القوانين الدولية التي تتحول إلى مجرد نكتة وسلامة الصحافيين البدنية إلى مجرد أمنية، وليس حقاً يحفظ أو ينتزع وسط مجتمع دولي عاجز عن المحاسبة وعن حماية الصحافيين.

أنظر لكل الصحافيين الذين تقتلهم إسرائيل، وأفكر بكل القوانين الدولية التي تتحول إلى مجرد نكتة وسلامة الصحافيين البدنية إلى مجرد أمنية

كلما حاولت الانكفاء مع هذا الواقع المتصل بموتنا، ومآسينا، وكلما حاولت الهرب من هذه الإبادة اعتراني شعور واضح وعميق بالانكسار. المسؤولية الصحافية لا تدع مجالًا للانفصال عن الواقع. إنها تحتم على الصحافي متابعة الخطاب السياسي والإنساني والوقوف على واقع ومعاناة الضحية في خضم كل ما يحصل، وكأنها آخر فرصة للتمسك بما تبقى من أمل ومن عدم الإحساس بقلة الحيلة تحت صوت الزنانة والقتل العشوائي وأمنيات كثيرة بالخلاص. أحياناً كثيرة أشعر بعدم قدرتي على الكتابة، ولكن وعلى الرغم من محاولات النجاة اليومية أحاول خلق هذه المساحة؛ لجذب الكتابة الصحافية بصفتها أداة توثيقية تجسد الفعل على الرغم من كل محاولات اجتثاثه.

أكتب لأن ثمة قصصاً كثيرة تستحوذ على تفكيري فأشعر بمسؤولية أن على أحد أن يكتبها؛ لأن على أحد أن يقرأها. أكتب لأني أعي جيداً أن الكتابة فعل مقاومة مستمر أمام كل المحاولات التي تتجه صوب عزل وتغييب الفلسطينيين بشراً وصحافيين في غزة عن الجسد الفلسطيني.

على مدار عام ونصف من الإبادة على غزة تعلمت وما زلت أتعلم في كل يوم من أساتذتي وزملائي أن المعنى الجوهري للصحافة هو التمسك بالأمل حتى في ظل الظروف الكارثية التي نعيشها في القطاع، وأن الصحافة قادرة أن تلعب دوراً محورياً في تحقيق رسم صورة المستقبل كما نحب. فمن كان يتخيل أن يكلل حلم الثورة السورية بالحرية يوماً لولا تطلعات وآمال أبنائها التي تجلت في محاولاتهم الدؤوبة بتأكيد وجودهم بالقلم والقرطاس مرة وبالمقاومة مرة أخرى؟

نعم، لقد علمنا الشعب السوري بعد 14 عاماً من الثورة بأن النهايات ليست نهايات؛ لأنها تتشابك ببدايات جديدة، وبأن الأمور لن تبقى على ما هي عليه، وأن الحياة في نهاية المطاف تغلب وإن بدا غير ذلك. وأعرف أكثر بأن القبور التي تضم رفات شهدائنا لن تذهب بدداً.

ثمة دائماً ما يشبه المدينة والحب، الاحتلال والجسد، البيوت المهجورة والحرية، أشياء تتجاوز وتتنافر وتنسجم في نفس الصورة. منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة يتردد في وعي ولا وعي قول الراحلة شيرين أبو عاقلة: "بدها صبر خلي المعنويات عالية". لأني من جيل مكلوم عاصر الحرب بكل فصولها على مدار 17 عاماً من الحصار، ولأني أعرف الحروب جيداً وعشت معها طويلاً، لأني أعرف كيف تجعل الطريق إلى البيت والعمل والأصدقاء والحب معلقاً بأخبار المفاوضات وخطوات الوفود.

ولأني لا أريد أن أنسى غزة حين غادرت شمالها إلى جنوبها للمرة الأخيرة لن أترك هذا القلم مهما بدا. ولأني أعرف جيداً وإن بدت خلفي يوماً هذه المدينة التي ولدت وترعرعت في طفولتي فيها يقيناً لن أنسى. ولأن ما أكتب جزء بسيط من مسؤولية يحملها الصحافي أمام كل القصص الكثيرة التي تحتاج إلى أن يسمع صوتها أحد؛ لأن الحكايات التي تروى يعني أنها لن تموت. ولأن الكتابة في هذا المقام ليست ترفاً وإنما حاجة قصوى.

ريما القطاوي
ريما القطاوي
ريما القطاوي، كاتبة روائية، وباحثة في الشأن العام عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، تدور اهتماماتها البحثيَّة حول القضايا العامَّة المعاصرة ودورانها في عوالم الصحافة، صدر لها رواية "كلنا على سفر".