ملف| وتبقى فلسطين قضية القضايا (25)
عزيز أشيبان
ثمّة ميل رهيب نحو جعل القضية الفلسطينية مجرّد تردّدات ظرفية تطفو على السطح من وقتٍ لآخر، من أجل التعتيم على حقيقة حضورها الدائم، وطمس هويتها الداخلية وثوابت شرعيتها وذخيرة رجالاتها.
وفي استماتة رجال المقاومة وبسالة شعب بأكمله أمام الهجمات الهمجية التي نكّلت بكلّ الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية، نستشف بعض المحاور المفصلية لقضية الأحرار الأقحاح في جميع أنحاء العالم.
قضية القضايا
في قلب القضية الفلسطينية تستقر مجموعة من القضايا المحورية والحيوية. بادئ ذي بدء، نحن أمام قضية تترفع عن محدّدات الجغرافية والدين والعرق، هي قضية الأحرار أينما حلّوا وارتحلوا، قضية المدافعين عن حرية الإنسان وكرامته وحقه في العيش الكريم على أرضه، وفي أحضان وطنه مع الرفض التام وغير المشروط لمخطّطات الاحتلال والاستيطان والتهجير.
ينضم إلى هذا الجهاد الإنساني المقدّس قضية الدفاع عن القيم الإنسانية وحقوق الإنسان من سلم وسلام، وحسن جوار، وحرية المعتقد والرأي، ورفض الظلم والاضطهاد والسلب والعنف والتمييز. فضلا على ذلك، تعتبر قضية فلسطين قضية جميع دول العالم الثالث التي تعيش واقع الوصاية والتدخل الأجنبي والحيف جرّاء استدامة معادلة الشرعنة الدولية التي تعمل لصالح الغرب والفوارق الصارخة بين دول الشمال ودول الجنوب، واستمرار الغني في احتكار الثروة وتعميق الفجوة مع الفقير.
تعتبر قضية فلسطين قضية جميع دول العالم الثالث التي تعيش واقع الوصاية والتدخل الأجنبي
لذلك، فنجاح القضية هو بمثابة الشعلة التي تضيء الطريق أمام من يتوق للتحّرر من جميع أشكال الاستعمار والعبودية ويطلب العيش الكريم. لا غرابة إذن أن تُواجه هذه المقاومة بجبروت عدوان لا يرحم وتكالب المتحالفين، خصوصاً أنّها تقع في بقعة جغرافية استراتيجية ذات حساسية قصوى تلتقي فيها مصالح المشاريع الاستراتيجية الكبرى وآمال قوميات متصارعة. هي قضية الأمل في التغيير وحق الحلم وإعادة ترتيب الأوراق وتحقيق العدل.
الانتقال من الإيمان الوجداني بالقضية إلى الإيمان العقلاني الحركي
جميل ومحمود أن تحظى القضية بالتضامن الشعبي والتعاطف نفسهما، وأن تُحتضن من طرف دول المنطقة العربية باعتبار القواسم المشتركة ووحدة المصير، غير أنّ الرأسمال الوجداني يكتسب النجاعة والفعالية بامتلاك وعي حقيقي بالقضية ومعرفة بنشأتها وتطوّراتها، خصوصا أنّها تتعرّض للتحريف والطمس والتزييف، لتتطوّر بذلك أشكال النضال وتصوّرات الممانعة وسبل التحرّر.
الجانب المظلم من الحكامة في المنطقة العربية
يبدو أنّ السواد الأعظم من الناس على دراية بحقيقة عجز الحكامة القائمة في معظم دول المنطقة العربية، إذ لم نعد نرجو منها خيرا، ومع ذلك تُحرج القضية من في مركز القرار، وتلحق به العار وتعرّي المزيد من العلل والمطبات، فتزداد النظرة قتامة وتحيل على ما نعرفه ولا نريد أن نراه، عسى أن نكون على خطأ، تشبّثا ببصيص من الأمل.
تُحرج القضية من في مركز القرار، وتلحق به العار وتعرّي المزيد من العلل والمطبات
تكبر الفجوة أكثر بين القرار السياسي والمطلب الشعبي، ويتعمّق الانفصام، وتستمر الهشاشة في حقيقة التعاقد الاجتماعي القائم. كيف للضعف والوهن أن ينخرطا في قضية الأحرار؟ كيف لمن عبّد الطريق للبلقنة والتشرذم أن يجمع الشمل؟
تبخر العنتريات والخطابات الشعبوية
تظلّ المتاجرة بالقضية من أهم هواجس بعض أشباح الزعماء، إذ يقيمون الأرض ولا يقعدونها بخطاباتهم البطولية الشعبوية التي تخفي ما لا تبدي من حقائق الخنوع والتآمر والاسترزاق والتحالف البغيض مع العدو، ليغدو حضورهم باهتا وممسوخا ومكشوفا لدى الجميع.
من الحي ومن الميت؟
تدعو المقاومة الفلسطينية الباسلة إلى مراجعة مجموعة من المفاهيم والتصوّرات والتخلّص من الأوهام. حقا، من الحر؟ من الحي؟ هل للحياة من معنى في غياب الكرامة؟ من يدرك جيدا وقائع الماضي ويفهم مجريات أحداث الحاضر ويملك التبصّر الحكيم للمستقبل؟ من أين يأتي العطاء الحقيقي والتضحية تعبيرا عن الانتماء الخالص للأمة وللإنسانية جمعاء؟
نفاق دول الشمال
هل للقيم وحقوق الإنسان من معنى إذا جرى اختزال تجربة تحقّقها وتنزيلها في بقعة جغرافية معينة؟ هل تتجزّأ منظومة حقوق الإنسان حسب العرق والانتماء الديني؟ حقيقة، لم يعد خفيا تناقض صنّاع القرار في الدول الغربية بخصوص منظومة حقوق الإنسان والديمقراطية وما يروّجه من دعايات وخطابات أسقطت أنظمة سياسية وفرضت حظرا على دول وشعوب وزادتها معاناة وتفقيرا. ليس الأمر بالجديد لكنه خيبة تُضاف إلى خيبات أخرى، ونجده حاضرا بقوة في أعمال روائية لكتّاب غربيين ينتقدون الممارسة الغربية لحقوق الإنسان، ويقومون بتعرية تناقضاتها وزيف خطاباتها. نحيل على سبيل المثال لا الحصر إلى رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد.
على المنوال نفسه، نعاين ونشاهد التعاطف الشعبي في الغرب نفسه مع القضية الفلسطينية، وتنديده بالمجازر والجرائم المرتكبة.
فشل معرّة التطبيع في عزل القضية
استمر مسلسل التطبيع في استمالة صناع القرار بالدول العربية من أجل فكّ العزلة النفسية عن الكيان وعزل الفلسطينيين عن الجيران، وعن الأمة الإسلامية، وإضعاف مناعتهم، سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا. لكن، مع اندلاع شرارة العدوان يتبخر هذا المطمح الباطل، وتتضح بجلاء معالم استحالة تحقّقه أمام الرفض الشعبي المطلق له.
مستحيل أن يتحوّل الشذوذ إلى وضع طبيعي مسلّم به، ولو وُظّفت له كنوز الأرض.