ملف| مفارقات حرب غزّة بين العرب والغرب (28)
عبد الحفيظ العمري
تُوثّق كتب التاريخ نضالات الشعوب ضد محتليها عبر العصور، فتعرض مراحل النضال بشيء من التفصيل، وكأنّها تجاري بمدادها كلّ قطرة دم سالت من مقاوم أو من الشعب المضطهَد، كلّ هذا كي تتعلّم الأجيال اللاحقة دروساً حياتية خالدة، فلا تفرّط بهذه الحرية التي وُلدتْ في ظلّها.
وكذلك، تثمّن الشعوب الحرّة هذه الحرية التي نالتها بعد نضالٍ مرير، فتنظر بعين الأسى والتعاطف إلى الشعوب التي لا تزال تحت نير الاحتلال، ما قد يدفعها إلى معاونتها إذا ما سنحت الفرصة لذلك، وقد رأينا هذه الحالة مع حكومة جمهورية جنوب أفريقيا التي رفعت دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، تتهمها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين في قطاع غزّة.
إنّ هذا التضامن القانوني، إن صح التعبير، مع قضية فلسطين هو أحد أشكال التضامن، جنباً إلى جنب مع المظاهرات والفعاليات التي شهدتها مدن وعواصم عديدة حول العالم، بما فيها أهم الدول الغربية التي يقف ساستها وراء الصهاينة في حرب الإبادة ضد أهل غزّة، تتصدرها الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا.
وهنا نطرح سؤالاً: ما الذي جعل قضية فلسطين تلاقي هذا التعاطف العالمي العابر للقارات في هذه "المنازلة" بالذات بين فصائل المقاومة الفلسطينية والكيان المحتل، في حين تلاقي تعاطفاً خافتاً في محيطها العربي؟
إنّ القضية الفلسطينية مرت بمنعطفات كثيرة، لكن عملية طوفان الأقصى أهم هذه المنعطفات
إنّ القضية الفلسطينية مرت بمنعطفات كثيرة طوال الـ75 سنة المنصرمة، لكن عملية "طوفان الأقصى" التي لا يزال أوارها مشتعلاً أهم هذه المنعطفات؛ فقد أعادت القضية إلى الواجهة العالمية بعدما كادت تُنسى. وأيضًا، إنّ ما جعل هذه الحرب مختلفة عن السابقة بين فصائل المقاومة والكيان المحتل، أنّ الفصائل هي مَنْ ضغطت على الزناد أولاً، وقامت بعمليتها العسكرية الجريئة والمبهرة في صباح السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، حيث كانت كاميرا الفصائل في إعلامها العسكري حاضرة في كلّ تفاصيل المعركة، مستغلة فضاء التكنولوجيا الحديثة التي تمكّن أيّ جهة من "بثّ وجهة نظرها إلى العالم دون حجب".
ثم كانت كاميرا القنوات الإخبارية، تتصدرها قناة "الجزيرة" القطرية، التي وثّقت المعركة منذ اليوم الأول، رصداً ونقلاً وتحليلاً، بما في ذلك كلّ مجازر الصهاينة ضد المدنيين، ما يشير إلى أنّ الإعلام اليوم سلاح فعال لا تقل أهميته عن أهمية السلاح العسكري، بل قد يفوقه، لأنّ أثر الإعلام يبقى بعد سكوت دوي المدافع.
هذه التغطية الإعلامية نقلت الصورة كما تجري على الأرض، وفندّت الأكاذيب التي روّجتها إسرائيل حول المعركة منذ يومها الأول، ووثقت لدماء الشهداء من المدنيين العزّل التي سالت على أرض غزّة، ولا تزال تسيل، إضافة إلى بسالة المقاومة الفلسطينية الصامدة أمام جبروت جيش الاحتلال بكلّ مقدراته، وبما أمده به حلفاؤه من وراء البحار، سلاحًا وعتادًا. كلّ هذا جعل من غزّة أيقونة عالمية على كلّ لسان.
أما عن خفوت التعاطف العربي تجاه المعركة، فيعود إلى طبيعة الأنظمة العربية السياسية التي لم تصنع دولاً حقيقية ذات مؤسسات مرتكزة على ديمقراطية حقيقية تمنح شعوبها حقوق الإنسان وحرية التعبير، كما تتمتع بها شعوب الغرب، وهو ما سمح لها بمناصرة غزّة على الرغم من سياسات أنظمتها الموالية لإسرائيل.
وإن ادّعت الأنظمة العربية ديمقراطيتها، فإنّ الواقع على الأرض يكذّب هذه الادعاءات. ونجد هذا في خطواتها وتصريحاتها السياسية الخجولة التي لا تمسّ قلب القضية، وأي قضية؟ إنّها القضية الفلسطينية التي من المفترض أنّها قضيتها المركزية عربياً ودينياً، لكنها راحت تتصرّف كأنّها على الحياد تجاه ما يجري، هذا إذا لم تكن مشاركة في زيادة الأعباء على الفلسطينيين في غزّة، ولعل إغلاق معبر رفح من قبل النظام المصري أكبر مثال على ذلك.
يعود خفوت التعاطف العربي تجاه غزّة إلى طبيعة الأنظمة العربية السياسية التي لم تصنع دولاً حقيقية ذات مؤسسات مرتكزة على ديمقراطية حقيقية
أنا أتحدث عن الأنظمة السياسية العربية بعيداً عن الشعوب العربية المغلوبة على أمرها، والتي تناصر القضية في مظاهراتها المسموح بها في بعض دولنا العربية، بيد أنّ هذه الشعوب في واقعها الحياتي شعوب مقهورة على حالها، مشغولة بمصدر رزقها المتعسّر داخل هذه الكانتونات الجغرافية المسماة دولاً. وربما وضع بعضها "أسوأ من الشعب الفلسطيني نفسه"، بيد أنّها في مظاهراتها لا تريد إلا أن تنفّس عن بركانها الداخلي فقط!
هذه الشعوب لم تستطع أن تمدّ العون لنفسها، فلم تستطع أن تغيّر حكوماتها التي ترى أنها حجر عثرة تقف أمامها في مد ّالعون للفلسطينيين. والدليل على ما أقول ما جرى في أحداث الربيع العربي، وكيف استطاعت الثورات المضادة وأد الثورات بمساعدة بعض من شعوبنا "الباسلة"، والتي رأت في الربيع العربي مؤامرةً كونيةً عليها، وليس فرصة للانعتاق من الحرس القديم.
نعم، هناك عوامل أخرى داخلية وخارجية أدّت إلى فشل الربيع العربي، بيد أنّ وعي شعوبنا العربية "المعدوم" كان هو المرتكز لكلّ ما جرى.
وعودة لموضوع غزّة، فإنّنا نجد ترابطاً وثيقاً بين ما يجري في أرض فلسطين وبين بقاء الأنظمة السياسية العربية، وكأنّ الخيوط المتحكمة بالمنطقة تلتقي هناك في القدس، إذ إنّ بقاء الأنظمة السياسية العربية مكفول ببقاء الشعوب مشغولة بنفسها عن قضاياها المصيرية.
ومن جانب آخر، إنّ هذه الأنظمة تمثّل ما يسميه الدكتور عبد الوهاب المسيري جماعة وظيفية، "أي تحويل النخبة الحاكمة إلى جماعة وظيفية تدين بالولاء للاستعمار (الغربي). وتنظر للمجتمع الذي تنتمي إليه نظرة تعاقدية باردة، فتنعزل عنه وتشعر بالغربة ويزداد ارتباطها العاطفي والثقافي والاقتصادي بالمركز الإمبريالي".
ومَنْ يمثل هذا المركز الإمبريالي في الشرق الأوسط؟
إنّها دولة إسرائيل، التي وُجدت، كما يقول المسيري، "باعتبارها دولة استيطانية قتالية تعمل للدفاع عن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للعالم الغربي، ويقوم هو بالدفاع عنها بالمقابل، أي أنها دولة وظيفية تعاقدية مع الغرب". فما تقوم به الأنظمة السياسية العربية تجاه إسرائيل هو عينه ما تقوم به إسرائيل تجاه الغرب.