ملف: جنيالوجيا العنصرية (17)
هل في البدء كانت العنصرية؟ هل هي شرقية أم غربية أم هي ظاهرة بشرية؟ هل الخطاب العنصري في مجتمعاتنا بضاعة فاسدة مستوردة أم هي من صميم البنية الثقافية المُشكّلة لشكل اجتماعنا القديم والحديث؟ وكيف يمكن للعنصرية أن تكون براديغماً لقراءة تاريخ البشرية، بما هو تاريخ سلطة وتاريخ حرب وصراع أعراق؟ وعلى اعتبار أنّ الذات الإنسانية، وبحكم الطبيعة تتمركز حول نفسها ونزّاعة لنزع الاعتراف، وبالتالي نفي الآخر؟ كيف يمكن التفكير في إنسان مضاد لهويته، بحيث يصير هو تلك الهوية، وقد قامت بنقد نفسها دون أن يكون ذلك سلبياً أو سالباً؟
من أوجه الطرافة في الثقافة الغربية أنه خرج من جسدها أطراف مضادة لتوّجهاتها ومسائلة لمسلّماتها وكاشفة لمكامن نزوع السلطة والهيمنة في مسارها، فهل يمكن تصوّر مثقف أكثر غيرية ومضاداً لثقافته وقيمها أكثر من الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه؟ أليس هو أشدّ أعداء الثقافة الألمانية والأوروبية عموماً، وهو القائل "لا يوجد ما يمنعني من أكون وقحا وأقول للألمان حقائق غير مبهجة، ومن هناك يمكن لغيري أن يفعل هذا... كلّ شيء موجود اليوم، السقم والغباء اللذان يعارضان الثقافة، الذهان الذي يسمّى القومية الذي تعاني منه أوروبا" (هذا هو الإنسان ص 144 - 142)، ثم يقول في موضع آخر: "إنني لا أطيق هذا العرق دائما وهم عرق... الألمان ليست لديهم أي فكرة كم هم سوقيون، وهذا نفسه ذروة السوقية" (هذا الإنسان ص 148).
هل يمكن أن نفهم ما قام به نيتشه كعنصرية موّجهة إلى الذات، عنصرية مقلوبة؟ ألا تبدو الذات النيتشية هنا، وكأنها تتحوّل إلى ذلك الآخر المنبثق من صميم الأنا، ذلك الاختلاف الذي ولّدته الهُوية، والذي أصابها بجروحٍ وتصدّعات عسيرة ما تنفك تندمل، إنه الابن الذي ماتت الأم بولادته، والذي ستحيا فيه بشكل مختلف.
إنّ التفكير في العنصرية يقودنا إلى الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، كيف لا وهو الذي رسّخ منهجاً في التفكير يعيد كتابة تاريخ أوروبا بما هو تاريخ خطاب السلطة وأدواتها في استدامة السيادة بكلّ الآليات، ليس فقط الأدوات القانونية والمعيارية، بل وحتى البيولوجية والطبية والعرقية، فالدولة حسب فوكو ستستثمر خطاب صراع الأعراق، وهو ما سيمّهد لظهور عنصرية الدولة في القرن العشرين، عنصرية بيولوجية ومركزية تجلّت في الخطاب النازي، كنموذج للدولة المكلفة بالحماية البيولوجية للعرق، مع توظيف إيحاءات وأساطير، الوطن/ الأمة، الأمجاد...
إننا بحاجة لكتابة تاريخ السلطة والإقصاء والهيمنة والعنصرية في ثقافتنا، لأننا حينما نكتب تاريخ شيء ما نتحرّر منه
في كتاب له بعنوان "يجب الدفاع عن المجتمع"، خصّص فوكو فصولاً للتفكير في العنصرية، بما هي خطاب، وذلك بمنهج جينيالوجي، معتبراً أنّ مولد العنصرية مرتبط بانحراف تاريخي للخطاب الثوري والصراع الطبقي، والمرتبط بدوره بما يسميه خطاب صراع الأعراق، الذي ارتبط في بداية نشأته بمسألة القوانين والسيادة.
لقد نشأ خطاب صراع الأعراق كوعي تاريخي مضاد للتاريخ السياسي للسيادة الرومانية الرسمي الذي كان موالياً للسلطة والمتجه إلى حفظ النظام القائم والانتقاء والإقصاء، ولذلك سيشكل خطاب صراع الأعراق في القرن السابع عشر شكلاً أولياً للمعارضة والخطاب الثوري في أوروبا، أو وعياً تاريخياً يعبّر عن الهامش في مقابل السيادة المركزية. وهنا، بيّن فوكو كيف أنّ خطاب صراع الأعراق، فَصَلنا عن وعي تاريخي قانوني ممركز حول السيادة، وأدخلنا في شكل من التاريخ اليقظ والحالم، العارف أنّ مسألة السلطة غير منفصلة عن مسألة الاستعباد والانعتاق والتحرّر.
ومن هنا فخطاب صراع الأعراق هو الأصل الجينالوجي لفكرة الصراع الطبقي، وهذا ما يتأكد على لسان ماركس في نهاية حياته في رسالة إلى إنجلز يقول له "ولكن صراعنا الطبقي تعرف جيدا أين وجدناه لقد وجدناه عند المؤرخين الفرنسيين عندما رووا صراع الأعراق". من هذا المنطلق، اعتبر ميشيل فوكو أنّ تاريخ الممارسة الثورية لا يمكن أن ينفصل عن التاريخ المضاد الذي قطع مع الشكل الهندوأوروبي للممارسة التاريخية المرتبط بممارسة السيادة.
إنّ مولد العنصرية سيرتبط أساساً بالتحوّل الذي سيعرفه خطاب صراع الأعراق من كونه تاريخاً مضاداً للتاريخ السياسي للسيادة الرومانية إلى سلاح للدولة المحافظة في القرن العشرين، حيث بروز وسواس طهارة العرق وتسرّبت فكرة الأجنبي، ومركزية ما هو بيولوجي مع استعمال إيحاءات وأساطير الوطن والأمة، ولا أدل على ذلك من النموذج النازي والسوفيتي بدرجة أقل.
تعدّ تجربة فوكو ونيتشه في التفكيك والنقد الجذري، وبمنهج جينالوجي لمولد المنازع العنصرية في الثقافة الغربية تجربة جديرة بالاهتمام وجديرة بالتقدير والاقتفاء لفهم كيف ولدت هذه المنازع في ثقافتنا كذلك، والتي لا تخلو أيضاً، من أشكال من الخطاب القائم على معايير إثنية، بل بيولوجية، وحتى إيديولوجية تمجد الذات وتدفعها نحو الانغلاق، مما يجعلنا نقول إنّ كلّ ثقافة، (وكلّ كائن أيضاً) بحاجة في جسدها إلى طفيليات ومضادات نيتشوية وفوكوية تنقيها من الداخل لتخلّصها من كلّ إرادة نرجسية، ومنازع عنصرية تُمركزها حول نفسها وتفتحها على ما يٌغايرها. إننا بحاجة لكتابة تاريخ السلطة والإقصاء والهيمنة والعنصرية في ثقافتنا لأننا حينما نكتب تاريخ شيء ما نتحرّر منه.