في تأويل المتفرجين على الحروب المعاصرة
تساءل ميلان كونديرا ذات كتاب: ما الذي وقع للحرب وأهوالها لتصبح موضوعاً للضحك؟ ونتساءل أيضاً: ما هو الموقف التأويلي (الذي يسمح به وضعنا الوجودي وليس السياسي) الذي يمكن أن نُدلي به بخصوص أيّة حرب معاصرة لنا؟ ما هي الحالة النفسية والفكرية لمتفرج على حرب جارية على مسرح العالم، دون أن يكون متضرّراً مباشراً من اشتباكاتها، بل بالأحرى هو متضرّر استراتيجي مؤجّل لخسائرها، أو إنّه بالأصل ضحية لا تحتاج حرباً؟
يمكننا الارتقاء بهذا الحدث إلى ورشة للتفكير من جهة تصويب "الكاميرا"، لا إلى الحرب ومخلّفاتها، وعدد الضحايا، وكم الذخائر، والأسلحة المسُخرة ونوعها، ولا إلى رصد معاناة الناس من حيت النزوح أو عد الضحايا ورصد حجم التفاعلات الرسمية الفاعلة والمؤثّرة بشكل مباشر في الحدث، فهذه مهمة الصحافي الجليل ووظيفة العين المباشرة التي تُنتج الخطاب حول الحدث/ الحرب، لا التنبؤ بمآلها وتداعياتها الاقتصادية والجيوسياسية و...
إذاً، هذه مهمة المحلّلين الاستراتجيين المعظمين، لكن المنزع الفكري الذي نراه/ نرتضيه، هو ليس إنتاج الخطاب حول الواقعة/ الحرب، وإنّما السعي لصياغة رؤية وفلسفة ما للتلقي المعاصر للحرب، رؤية ثاوية في الخطاب الموازي للحدث، التفكّر في الخطاب المستجد ومحاولة قراءة واستقراء ما لا يُقال، الكامن في عمق ما يُقال، لرصد تحوّلات التمثل الإنساني والاجتماعي للحرب وما يستتبعها من أشكال التفاعل مع وقائعها.
كأنّ الإنسان المعاصر أصابه نوع من الملل من سلام العالم ويحسّ بأنّ السلام الدولي سلام متآمر وخادع
فإذا كانت توّجهات عدّة تتجه إلى ترداد لحن الإدانة والتأسف الذي تفترضه النزعة الخيّرة للإنسان المزعوم، فإنّ نمطاً آخر من التلقي للحرب أصبح يلوح في الأفق، تَلَقٍ يُبطن رغبة جمالية استيطيقية في مشاهدة الفاجعة ويستأنس بمعايشة الكارثة، وكأنّ الإنسان المعاصر أصابه نوع من الملل من سلام العالم، ويحسّ بأنّ السلام الدولي سلام متآمر وخادع، فأصبحت تتلبسه نزعة فيلمية في تفاعله مع الأحداث الدولية، فيتعاطف مع أبطال ويكره آخرين، وينتظر ردود أفعال الشخصيات ويترقب نهاية محتملة ترضي أفق انتظاره. وهذا ناتج أصلاً عن توّجه رسخته الطبيعة الرقمية للعصر حيت "تلفزة" كلّ شيء، حتى الواقع بتحويله إلى نمط سينمائي في إطار باردايغيم فرجوي لحروب اليوم يجعل استقبالها حربياً في حدّ ذاته، بحيث لم يعد معه الموت الجماعي للناس في منطقة ما من الأرض مدهشاً ومانعاً للحياة في زاوية أخرى من العالم، في ضرب من تساكن الموت والحياة دون أيّة تجاذبات أخلاقية، فلم يعد القتل والاعتداء شيئاً عارضاً على العالم، بل برز من التعايش مع الحرب، عبر تمثّله كنمط للوجود والكينونة، وعبر اقتناصه كفرصة للتسلية والترفيه وملء الفراغات، كلّ أشكال الفراغ النفسي والاجتماعي والسياسي، وبالتالي ترجيح الصراع على السلام لمحاربة ملل السكن في العالم على نحو سلمي خادع.