ملف: جدلية الحركة النسوية (22)
بدأت قضية حقوق المرأة في البزوغ عند بدايات القرن التاسع عشر، تلك الفترة التي أعقَبَت قرونًا من الصراع الديني الكنسي في أوروبا وواكبت تصاعد الاستياء الشعبي من دور الكنيسة المهيمن على شؤون الإدارة والحكم، والذي تُوّج بانتصار الثورة الفرنسية (1789–1799 م) على الحكم الملكي الكَنسي وتنحيته تمامًا عن كلّ ما يتعلق بشؤون الدولة والحكم والرعية وتسيير حياتهم اليومية في المجالات كافة. مثلت الثورة الفرنسية (الدموية) أنموذجًا فكريًا مُلهِمًا لسائر الشعوب الأوروبية التي تاقت إلى الحريات الشخصية وإعادة تشكيل وتعريف المنظومة الاجتماعية السائدة وتحريرها من سطوة وجبروت رجال الدين المسيحي.
كانت حرية الفرد، وعلى رأسها "حرية أو تحرير المرأة" أو "حقوق المرأة"، من المطالب الرئيسة للثورة الفرنسية، ومن المخرجات المرجوة لها، والذي تَطلّب بدَوْره إعادة هندسة منظومة الأسرة، أو بالأجْدَر تفكيكها، وإعادة تعريف مفهوم الأخلاق والقِيَم، ومراجعة شاملة لعلاقة الدولة والمجتمع بالفرد. لم تعتمد الثورة الفرنسية على قتل رجال الدين المسيحي والحكم فحسب، بل تطوّر الأمر إلى سياسة القتل المعنوي لهيبة الدين المسيحي ودوره الروحي والأخلاقي كناظم لشؤون الأسرة والمجتمع.
وفي خضم التغييرات البنيوية الفكرية والاجتماعية والسياسية التي أحاطت بالمجتمع الفرنسي والأوروبي بعد نجاح ثورته، نشأت في بدايات القرن العشرين "الحركة النسوية" التي كان من أهم رموزها بل ومرجعها الأعلى، الفرنسية سيمون دي بوفوار. تمدّدت "الحركة النسوية" أوروبيًا ثم أميركيًا، حتى أصبحت حركة عالمية تتبنى سياساتها دول وحكومات قوية وعدد هائل من المنظمات الوطنية والدولية والأممية.
مكمن الخطورة في إطلاق بعض المصطلحات والشعارات أنه تمّ تفريغها في قالب "حقوق الإنسان" وتصديرها للعالم الإسلامي دون تبيان مفاهيمها الحقيقية وأصولها التاريخية
كما وَلَّدَ ذلك الحراك الثوري مصطلحات جديدة لتُعَبِر عن جزء من السجال الفكري الدائر في الجمهورية الفرنسية الوليدة مثل؛ "الحركة النسوية أو الأنثوية"، "الدولة الثيوقراطية" أو "الدولة الدينية"، و"الأبوية البطرياركية" أو "المجتمع الأبوي" أو "االسلطة الأبوية"، "المجتمع الذكوري"، "القيود المجتمعية التقليدية" ... إلى آخره. وفي الربع الثالث من القرن العشرين، بدأت مصطلحات أخرى في التبلوّر ثم التَرَسُّخٌ على الساحة العالمية، والتي عكست تطوراً نوعيا في معركة الغرب الأوروبي مع كيان الأسرة والقيم الإنسانية المجتمعية مثل؛ "الهوية الجنسية"، "النوع الجنسي أو الجندر"، "المثلية الجنسية"، "رهاب المثلية"، "العبور الجنسي أو الجندري"، "الدراسات الجندرية" ... إلى آخره.
وروّج بعض النخبة من العرب والمسلمين، المغرمين بثقافة الغرب لذات المصطلحات، ولأخرى تتواءم مع الداخل العربي مثل؛ "الفكر الظلامي أو الرجعي"، "الموروث الثقافي"، "المجتمع الصحراوي"، "الفكر الحداثي أو المستنير" ... إلخ، هدِفت إلى التمييز بين المتلقي للفكر الغربي كما ورد والداحض له على أسس من القيم الإسلامية الشرعية.
تتفاخر "الحركة النسوية" في الغرب بمكتسباتها التاريخية والمعاصرة والمتمثلة في؛ حق المساكنة (العلاقة خارج إطار الزواج)، الحق في إقامة العلاقات المتعدّدة، حق الحمل خارج إطار الزواج، حق الإجهاض، حق إقامة العلاقات المثلية الجنسية للإناث، حق الزواج والإنجاب للإناث المثليات (بنوك النُطَف وتأجير الأرحام)، حق المساواة المطلقة مع الرجل في فرص العمل في كافة المجالات (بالمحاصصة أو النسب الثابتة)، المساواة المطلقة مع الرجل في الأجور ... إلى آخره. تحققت غالبية تلك المكتسبات بشكل شبه كامل.
مكمن الخطورة في إطلاق تلك المصطلحات والشعارات أنه تمّ تفريغها في قالب "حقوق الإنسان" وتصديرها للعالم الإسلامي دون تبيان مفاهيمها الحقيقية وأصولها التاريخية، ومعاملتها على أنها من المسَلَّمات أو الثوابت الإنسانية التي لا يُسمح بمناقشتها. إنّ استخدام مصطلحات فضفاضة أو بالأحرى غامضة مثل "المجتمع الأبوي"، "المجتمع الذكوري"، "الحركة النسوية" ... إلخ وإسقاطها قسرًا في غير محلها أو بالتغافل عن السياق الديني والثقافي والتاريخي الذي وُلدت ونمت فيه يُعتبر تجرُّؤًا على الخيارات والقناعات الثقافية للآخرين. كما أنّ مناقشة مصطلحات محدّدة تحمل مفاهيم وتفسيرات متباينة أو متناقضة لدى طرفي النقاش لا يؤسّس لحوار شفاف وبناء.
الأخلاق مسألة نسبية ومرتبطة بالثقافة أو العقيدة، فما يُعتبر حقًا أصيلًا عند ثقافة ما، قد يُعتبر باطلًا أكيدًا عند ثقافة أخرى
على سبيل المثال، الدين الإسلامي، بالإضافة إلى الجانب العقَدي، أتى بشريعة مُنظِمة لجميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية ... إلخ، أما الدين المسيحي فلم يأت بشريعة، وإنما أتى بتعاليم روحية لتطهير القلوب وتنقية النفس البشرية من آثامها. فما ينسحب على المسيحية لا ينسحب على الإسلام بالضرورة، لا من الناحية الموضوعية ولا من ناحية السياق التاريخي والسياسي الذي أسّس لثورة الغرب على الكنيسة وربما القيم الأسرية والإنسانية، وواكبه فصل الدين عن الدولة أو ما يُعرف بالعَلْمانية.
من المتعارف عليه أنّ الأخلاق مسألة نسبية ومرتبطة بالثقافة أو العقيدة، وأنّ ما يُعتبر حقًا أصيلًا عند ثقافة ما، قد يُعتبر باطلًا أكيدًا عند ثقافة أخرى، وعلى الرغم من وجود قِيَم إنسانية فطرية أو ما يُعرف بالمشتركات الإنسانية، فإنّ الغرب الأوروبي والأميركي قد تعدّيا هذه القيم، على الأقل على المستوى الرسمي التشريعي والقانوني.
ختامًا: الطرح الغربي (الأوروبي) للقضية النسوية يشي بالآتي: أولًا، الترويج لمصطلحات ومقاصد مائعة وغامضة تحمل في طياتها دلالات ملتبسة ما يؤسس لحوار عشوائي وغير شفاف. ثانيًا، فرْض المفاهيم، تصدير الرؤى الفكرية أو استيراد الثقافات بمعزل عن البيئات السياسية والاجتماعية والدينية التي نشأت فيها، وبمنأى عن القناعات العَقَدية للطرف المتلقي هو بمثابة "احتكار فكري" أو بالأحرى "وصاية ثقافية" وحلقة أخرى من مسلسل الغزو الثقافي للعالم الإسلامي.