الأَحرف العربية: المجازر والصمود عبر التاريخ
اللُّغَة هي منبع ثقافة الأمم وهي بمثابة القلب النابض لهُوِيَّة الشعوب. ولذلك، فإنّ أول ما تمتدّ إليه يدّ أيّ مستعِمر هي لُغَة أهل البلاد، محاولًا تغييبها بالتزامن مع التمكين للُغَته، بما يُمكن أن نسميه "الإحلال اللغوي" أو "الغزو اللُّغَوِيّ". وقد هَدَفَ الاستعمار الأوروبي دَوْمًا من هذه السياسة إلى إعادة هندسة وصياغة عقول الشعوب المُستعمَرة، فاللُّغَة في أصلها ليست أصواتاً مكتوبة فحسب، بل كلمات ومصطلحات تحمل دلالات ثقافية ودينية مُعَبِّرة عن هُوِيَّة وتاريخ الناطقين بها. وقد حَفِلَ تاريخ المسلمين بتجارب كثيرة للإحلال اللُّغَوِيّ، سَجَّلَت نجاحات متفاوتة، واتَّفَقت على استهداف الأَحْرُف العربيَّة أو الْقُرْآنِيَّة.
تزامن خروج الإسلام من جزيرة العرب مع انتشار الثقافة العربيَّة في أرجاء الأرضِ، وقد أخذ ذلك عدّة أشكال، مثل استعارة الأحرف العربيَّة من أجل تدوين اللُّغَات الأعجمية (الأجنبية) التي كان يتكلم بها المسلمون (الجدد)، دخول المصطلحات العربيَّة إلى مَعاجم تلك اللُّغَات وورودها على ألسنة المسلمين، أو تَبَنّي العربيَّة ذاتها كلُغة رسميَّة للدولة أو كلُغة جامعة للقبائل المتنوعة لُغويًا. بالمقابل تأثرت العربيَّة باللغات الأعجمية كالعُثْمانية نتيجةً لتمازج الثقافات والقرب الجغرافي.
شهدت بدايات القرن الأول الهجري وصول الهجرات العربيَّة إلى أفريقيا، ثمّ توافُد القوافل والرحلات الاستكشافية العربيَّة من شمال أفريقيا إلى أفريقيا جنوب الصحراء، أو دول غرب ووسط وشرق أفريقيا، ودخول الكثير من القبائل الأفريقية في الإسلام، وتمازج الثقافتين الأفريقية والعربيَّة، ثم نُشُوء ممالك إسلامية أفريقية عظيمة.
تبنَّت تلك الممالك الإسلامية العربيَّة كلُغَة رسميَّة لها، وكلغة للتعليم والتجارة والأدب والمناسبات الاجتماعية. كما دوَّنت لهجاتها المحلية بالأحرف العربيَّة، مثل: اللغة السواحيلية، والقمرية، والمالاغاشية (مدغشقر الحالية) في شرق أفريقيا، ولغة الهوسا، والوسونغاي، والفلانية، واليوربوية، والماندينغو، والولوفية في غربها ووسطها. وصلت تلك الممالك إلى أوج مجدها ما بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر الميلاديين.
كانت اللغة الأديغية، والشيشانية، والأنغوشية (اللغات الشركسية)، واللغة البشكيرية تُكتب بالأحرف العربيَّة قبل أن تُغيَّر قَسراً إلى الأحرف الروسية
كان وصول المستعِمر الأوروبي بعدها إلى القارة الأفريقية، إيذانًا بانحسار الثقافة العربيَّة الإسلامية. فبجانب حملات التبشير الممنهجة استهدف المستعمِر الأوروبي الحَرْف العربي المستخدم لتدوين تلك اللغات الأفريقية المحلية، فنجح في استئصاله واستبداله بالحرف اللاتيني، ثم انتقل الهجوم إلى العربيَّة ذاتها محاولًا تقويض دورها كلغة رسميَّة ولغة أم وتقديم الفرنسية كلغة جامعة للقبائل الأفريقية، ولكن الاستعمار الفرنسي لم ينجح كُليًا في النيل من مكانة العربيَّة كلغة رسميَّة وإنْ نجح في مزاحمتها، كما لم ينجح في جعلها لغة أُمّ لشعوب شمال أفريقيا كما كان مخطّطًا.
ولكنه حقّق نجاحات أكبر في معركته ضد العربيَّة في أفريقيا جنوب الصحراء، وإن كان بدرجات متفاوتة. مثلًا، لا تزال العربيَّة إحدى اللغات الرسميَّة في دول النيجر وتشاد والصومال، وإن كانت لا تعتبر لغة أُمّاً إلا في تشاد، وفقدت اللغة العربيَّة وضعها الرسميّ التاريخي في نيجيريا وغانا ومالي، ولكنها لا تزال تحتفظ بمكانة بارزة في التعليم المدرسي، والديني خصوصًا.
من الشمال الأفريقي المسلم اتجهت الفتوحات الإسلامية إلى جنوب أوروبا (شبه الجزيرة الأيبيرية)، فانتشرت فيها الثقافة العربيَّة وصارت العربيَّة الفصحى لغة رسمية لممالك الأندلس الإسلامية ولغة العِلم والثقافة التي تكلمها الصفوة، في حين تكلّم العامة لغةً عربيةً ممزوجة بتراكيب من اللُّغَة اللاتينية العَامِّيَّة (الإسبانية) أو العَامِّيَّة العربيَّة الأندلسية. كما تأثرت اللاتينية العَامِّيَّة ذاتها بالمصطلحات العربيَّة. استخدم مسلمو الأندلس (الموريسكيون) الأَحْرُفَ العربيَّة لكتابة اللُّغَة العامية اللاتينية في الفترة التي واكبت سقوط ممكلة غرناطة الإسلامية وحملات التطهير العرقي للمسلمين وتجريم استعمال اللُّغَة العربيَّة، سواء في الحديث أو الكتابة، وسُمَّيت تلك اللغة "الألخميادو".
كانت لغات أوروبية أخرى تُكتب بالأَحْرُفِ العربيَّة، مثل اللغة الألبانية والبوسنية، وهي تمثل شعوباً ذات غالبية مسلمة، وذلك أثناء وجودهم ضمن ولايات الدولة العلية العُثْمانية، لكنها (وتركيا) اضطُرت للتخلّي عن الحرف العربي لصالح الحرف اللاتينيي مع تفتت الدولة العُثْمانية وبفعل ضغوطات الغرب وروسيا، كما حُظِرَ تدريس العربيَّة في الجمهورية التركية الوليدة، ما عُرِف وقتها بانقلاب الحروف.
الأحرف الْعربيّة أو الْقُرْآنِيَّة ليست مجرد رموز لحركات صوتية، بل رموز لثقافة إسلامية عظيمة
في القارة الآسيوية، تحوَّلْت الأبجديَّة الفارسية إلى الأَحْرُفِ العربيَّة بعد دخول الفرس في الإسلام، وتمّ تدوين اللغة التركية العُثْمانية بالأَحْرُفِ العربيَّة في عهد الدولة العُثْمانية، كما استعارت اللغتان (خصوصًا العُثْمانية) كمًا كبيرًا من المفردات العربيَّة. كما اعتمدت غالبية الشعوب الآسيوية المسلمة الأبجدية العربيَّة لتدوين لغاتها القومية، والتي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، مثل: لغة الأوردو، السندية، البشتونية (الأفغانية)، البلوشية، البنجابية، الكشميرية، الجاوية (نسخة الكتابة العربيَّة للغة الملايوية في ماليزيا وإندونيسيا)، الأتشيهية (إقليم إندونيسي)، والإيغورية (غرب الصين)، والكردية، ....
بالرَّغم من ذلك، فإنّ مجموعة أخرى من الشعوب الآسيوية المسلمة التي اعتادت تدوين لغاتها القومية بالأَحْرُفِ العربيَّة لقرون مديدة، أُجبرت على استبدالها بالأَحْرُف اللاتينية تحت وَطْأَة الاستعمار الأوروبي، مثل: اللغة الملايوية والإندونيسية، أو استبدالها بالأَحْرُفِ الروسية (السيريلية) تحت وَطْأَة النظام الشمولي في الاتحاد السوفييتي، مثل: مجموعة اللغات التركية المنتشرة في دول آسيا الوسطى أو بلاد الترك ما وراء النهرين (أوزبكستان، وكازاخستان، وتركمانستان، وقرغيزستان، وأذربيجان...)، واللُّغَة الفارسية في طاجيكستان.
لم تقف مجازر الحَرْف العربيّ التي ارتكبها الاتحاد السوفييتي عند لغات مسلمي آسيا الوسطى بل شملت لغات مسلمي القوقاز أيضًا، فقد كانت اللغة الأديغية، والشيشانية، والأنغوشية (اللغات الشركسية)، واللغة البشكيرية تُكتب بالأحرف العربيَّة قبل أن تُغيَّر قَسرًا إلى الأحرف الروسية. أتمَّ الاتحاد السوفييتي عمليات استئصال الأَحْرُفِ العربيَّة من لغات مسلمي آسيا الوسطى والقوقاز في بدايات القرن العشرين.
الأَحْرُفُ الْعَرَبِيَّةُ أو الْقُرْآنِيَّة ليست مجرد رموز لحركات صوتية، بل رموز لثقافة إسلامية عظيمة، توهَّمَ أعداؤها أنّ استئصالها من على السُطُور يعْني تغييبها عن القلوب والعقول. الصراعات الثقافية سُنَّة كونية، والمعارك اللُغَوِيَّة ليست إلا ساحة من ساحات النِّزَالِ.