ملف: الإسلام والعنصرية... نظرة من زاوية أوسع (30)
لم يتردّد الضابط الفرنسي لحظة قبل أن يُطلق رصاصاته القاتلة على جسد الفتى الضئيل، نائل، عندما لم يمتثل لتعليمات الشرطة، ما يطرح سؤالاً عن السبب الذي يدفع فتى ذا أصول جزائرية من سكان الضواحي الفقراء للهرب من الشرطة؟ بالتأكيد يحمل معه مخدرات، أو سلاحاً غير مرّخص، أو حتّى متفجرات، بما أنه من أصول عربية!
لم يكن الفتى يحمل معه إلا بعضاً من شطائر البيتزا، يُوصلها لأحد الزبائن كي يساعد أمه في سدّ تكاليف دراسته ومعيشته، الأمر الذي دفع الآلاف للتظاهر في فرنسا، وأدى إلى أعمال شغب وسلب ونهب كلّفت شركات التأمين حوالي 650 مليون يورو، بحسب تقارير صحافية، لنكون أمام سؤال: ماذا لو كان الموقوف شاباً فرنسياً أبيض؟ هل كانت الشرطة ستتعامل معه مثلما فعلت مع نائل؟
أما على الضفة الأخرى من شاطئ البحر المتوسط، فقد كان المتابع العربي لأخبار الجمهورية الفرنسية المشتعلة يعلّق متشفياً بعبارات مثل "الحمد لله على نعمة الإسلام" أو "هذا جزاء ما فعلوه بدعمهم الرسوم المسيئة للرسول الكريم"، ليدخل بذلك في أتون معارك كلامية، وجدال طويل مع متابع آخر يؤمن بالقيم الغربية أكثر من إيمانه بأيّ شيء آخر، ويتهمه ويتهم ثقافته ودينه وقيمه بأنها أصل كلّ شر وبلاء في بلادنا، ليطلّ علينا من تحت أنقاض تلك المعارك كلّها سؤال جوهري: هل فعلاً حمانا الإسلام من وباء العنصرية المتفشّي عالمياً؟ أم أنّه عمّق تلك الظاهرة وساهم في تفشيها؟
سيؤكد لك المؤيّد أنّ الإسلام ما جاء إلا ليحارب العنصرية، فساوى بين الصحابة أبي بكر الصديق العربي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، تحت راية الإسلام، حين قال الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم: "لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدمُ، وآدمُ من ترابٍ"، بل إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم وبّخ الصحابي أبا ذر الغفاري بشدّة، حين نعت "بلالاً" بـ "ابن السوداء" بعد أن نشب بينهما خلافاً.
سيبتسم المعارض متهكماً على الحجج التي ساقها المؤيّد، متهماً إياه بأنه لا يزال يعيش خيالاً عقيماً أكل عليه الدهر وشرب، فها هي التقارير تشير إلى فظائع ترتكبها قوات الدعم السريع في السودان ضد سكان دارفور، فقط لأنهم من أصول أفريقية وهؤلاء من أصول عربية، بالرغم من أنهم جميعاً مسلمون يعيشون في دولة واحدة! وها هو الضابط الفرنسي يحاكم في محكمة فرنسية، لكن هل سيحاكم من أضرم النار وشرّد عشرات الأسر السورية اللاجئة في لبنان بالرغم من أنّ الجميع عرب مسلمون؟
كيف يمكن لشخص يفتخر بانتمائه ويعتزّ به أن يؤمن في نفس الوقت بأن لا أفضلية له على غيره في أيّ شيء؟
حين تتابع مثل تلك المعارك الكلامية على مواقع التواصل الاجتماعي، قد يبدو لك أنّ طرفي النقاش يسيران في خطّين متوازيين لا يمكن لهما أن يلتقيا في نقطة، في حين أنّ نقطة التلاقي واضحة جداً إن تخلّى كلّ منهما عن مقعده قليلاً، ونظر للأمور من زاوية أوسع، فالضابط الفرنسي الذي قتل الفتى نائل، لو كان يخدم في الجزائر منذ أقل من مائة عام، وقتل حينها ألفاً من "النوائل" لربّما حصل على وساماً للشجاعة! ودون أن نذهب بعيداً، فمنذ سنتين تقريباً، قصفت القوات الفرنسية المكلّفة بمكافحة الإرهاب في مالي، حفل زفاف، راح ضحيته عشرات المدنيين، هل سمعت عن مسؤول قُدّم للمحاكمة أو حتى قدّم اعتذاراً؟
بداية هذا العام، أصدر الأمير هاري مذكراته التي يميط فيها اللثام عن فضائح وخبايا القصر الملكي البريطاني، وبشكل عابر تحدّث عن مهمته التدريبية مع قوات بلاده في أفغانستان التي قتل فيها أكثر من 20 شخصاً، معتبراً إياهم "قطع شطرنج تمت إزالتها". الرجل لم يعتذر، وبالطبع لم يُحاكم، بالرغم من أنه لو بصق على أفغاني يسير في أحد شوارع لندن لقامت الدنيا عليه ولم تقعد، ولربما اضطر حينها للاعتذار ودفع تعويض مجزٍ كذلك!
صحيح أنّ الضابط الفرنسي يُحاكم أمام محكمة فرنسية لأنه خالف دستور وقانون الجمهورية (كما يحلو لهم أن يسموها)، في حين أنه لو كان في دولة أخرى لا تطبّق القانون، فسيكون تصرفه محكوماً فقط بمبادئه وأخلاقياته التي يؤمن بها وتكمن في أعماقه، يصطحبها معه أينما ذهب. فإن كان يؤمن في داخله بأنّه من عرق أو جنس أفضل وأرقى، وبأنّ الآخر من فئة أحطّ لا ضرورة لوجودها أصلاً، فلن يجد غضاضة في أن يبيدها، أو على الأقل يشجّع على ذلك. أما إن كان يؤمن بأنّ "من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً"، فسيمنعه هذا من ارتكاب جريمة قتل الآخر، حتى ولو أتيحت له ألف فرصة.
ربما، تكون العنصرية جزءاً لا يتجزّأ من نفسية كلّ إنسان ينتمي إلى عرق أو دين أو قبيلة أو دولة معينة، إذ كيف يمكن لشخص يفتخر بانتمائه ويعتزّ به أن يؤمن في نفس الوقت أن لا أفضلية له على غيره في أيّ شيء؟
فحلّ معضلة العنصرية يكون، إمّا بالقضاء على كلّ الانتماءات التي تفرّق بين البشر، وهذا درب من دروب الخيال، وإمّا بتطبيق القانون من قبل الدولة بكلّ حزم على كلّ من تدفعه عنصريته لارتكاب الجرائم. ولكن حين يغيب القانون أو تغيب سلطة الدولة، تحدث الكارثة، وحينها إما أن يكون هذا الانتماء هو الذي يهذّب النفس ويحدّ من العنصرية بما يدفع لاحترام الآخر وإكرامه أو على الأقل كفّ الأذى عنه لأنه في النهاية إنسان، وفقط.