السنوار والحد الفاصل بين الواقع والأسطورة
غالبًا، لو سألت أحدًا من أبناء جيلي ممّن قارب الأربعين أو تجاوزها لتوّه عن أفضل فيلم أجنبي شاهده طيلة حياته، فسيجيبك أنّه فيلم "قلب شجاع" (Brave Heart) للممثل والمخرج الأميركي الشهير، ميل جيبسون، الذي حصل بمفرده على جائزتي أوسكار من مجموع خمسة أوسكارات حصدها الفيلم المأخوذ عن قصة السير وليام والاس، الذي كان من أبرز قيادات حرب التحرير الاسكتلندية من سطوة الجيش الإنكليزي الرهيب نهاية القرن الثالث عشر الميلادي.
اللافت في الفيلم أنّ أغلب أحداثه حصلت بالفعل ومروية في كتب التاريخ، فلم يرهق صناّع الفيلم أنفسهم في صنع أسطورة من العدم كما يفعل صانعو أفلام الخيال العلمي أو الأبطال الخارقين. وكان كلّ ما عليهم فعله هو سرد القصّة بأحداثها ومواقعها وإبراز الجوانب الإنسانيّة للبطل أثناء كفاحه ضدّ المحتل ثمّ تعرّضه للخيانة من قبل نبلاء بلاده الاسكتلنديين طمعًا في المِنح والعطايا، وانتهاء بمشاهد تعذيبه البشع التي لا يمكن ذكرها في المقال لإجباره على طلب الرحمة من ملك إنكلترا لينال الموت الرحيم، لكنّه لم يفعل، فكان موته أسطوريًا كما كانت حياته، وخُلّدت ذكراه بفيلم أسطوري حكى قصّته بقدرٍ كبير من الدقة.
"قلب شجاع" كان مجرّد فيلم أحبّ أن أراه من فترةٍ لأخرى، ولم أكن حتى أهتم بمعرفة تفاصيل قصّته الحقيقية، كان هذا قبل يوم 17 أكتوبر الماضي، لكن لا أدري لماذا قفزت مشاهده إلى ذهني فجأة بمجرّد رؤيتي المقطع المصوّر الذي يظهر فيه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ومهندس عملية طوفان الأقصى، يحيى السنوار، قبيل استشهاده وهو يرمي بيده اليسرى عصا على مُسيّرة إسرائيلية كانت تهاجمه لأنّ يمناه كانت مبتورة تقريبًا، ثم توالت الأخبار بعد ذلك لتحكي تفاصيل الاشتباك المسلّح بين هذا الرجل الستيني الجريح وبين قوات النخبة الإسرائيلية، فتؤسّس دون أن تدري لأسطورة جديدة في تاريخ التحرّر والكفاح والتضحية.
خطّط السنوار وهندس عملية غير مسبوقة كان قرار الهجوم فيها للمقاومة وليس للمحتل
بهذا المشهد الذي صوّرته كاميرات الاحتلال ونشرته وسائل إعلامه، تخطّى السنوار بجدارة الحدّ الفاصل، لينتقل من مجرّد قيادي مجاهد عظيم بلا شك، إلى أسطورة خالدة ملهمة، ليس فقط لبني جلدته من العرب والمسلمين، ولكن لجميع دعاة التحرّر في العالم، فالرجل الذي قضى ما يقارب ثلث عمره أسيرًا في سجون الاحتلال لم يكن سجينًا عاديًا، ينتظر الرحمة من سجانيه أو الفرج أو حتى الموت الذي ينهي معاناته، بل كان يخطّط لكيفية قيادة حركة التحرّر من الاحتلال إلى تحقيق أهدافها، فتعلّم العبرية حتى أتقنها، وبدأ يدرس طبيعة المجتمع الإسرائيلي ويتواصل مع سجانيه بلغتهم، بل ويجري لقاءات صحافية مع إعلام الاحتلال.
عندما تولى قيادة حركة حماس في غزة لم يكن قياديًا عاديًا يدير شؤونها اليوميّة العظيمة بلا شك، أو حتى العمليات الاعتيادية ضدّ جيش الاحتلال، بل خطّط وهندس عملية غير مسبوقة كان قرار الهجوم فيها للمقاومة وليس للمحتل، وحتى نهايته لم تكن نهاية معتادة لقائد حركة مقاومة تغدر به قوات الاحتلال بعد وشاية من خائن أو تتبّع استخباراتي معقّد، لكنه قُتل رافعًا سلاحه في وجه المحتل، يقاتل حتى الرمق الأخير بما تبقى من جسده المتهالك.
أسطورة السنوار ترسّخت بالفعل على يدّ من كانوا يسعون للقضاء عليه وعلى مشروعه، وبدلًا من أن يكتبوا نهاية قصته، كتبوا بداية قصص كثيرة ستكون بالتأكيد وبالًا عليهم، وبدلًا من أن يثبتوا سرديتهم أنّه هرب إلى بلد مجاور أو أنه يختبئ في الأنفاق ويترك شعبه للقتل والتجويع أثبتوا بطوليته وكفاحه، بدأت القصة من حيث أرادوا نهايتها، ولربما نشاهدها يومًا فيلمًا هوليوديًا أسطوريًا، حينما تنقشع سحابة الصهيونية (وقد بدأت) عن عالم الفن والإبداع، أو حينما يستفيق "النبلاء" العرب على وقع كارثة، لا ينقذهم منها إلا تبني أساطير مثل السنوار أو أحمد ياسين أو عمر المختار، ومن على شاكلتهم.