ملاهٍ تحرسها ذاكرة الطفولة
مدينة ألعاب الدوحة، أو كما كانت تُسمّى في السابق "ملاهي سناء"، والواقعة بعد الدوار المجنون أو جسر الجِيدة (كما هو متعارف عليه)، كانت بمثابة عالمٍ مُحلِّقٍ في دنيا الخيال، مرآة لطفولة البعض، الأرض الحافلة بالمفاجآت التي تمثّل أهم وجهة للرحلات المدرسية، مكانٌ يستحق أن تُصرف فيه العيدية، حيث الذهاب إليه هدية، والحرمان منه أكبر عقاب، المكان الذي سجّل أولى قصص المغامرات الحياتية لجيل الأطفال السابق، الذين يمثلون آباء اليوم.
لأنصف المشاعر التي يجسّدها المكان، وتاريخه، قمت ببحث سريع عبر منصتيّ "تويتر" و"تيك توك"؛ نظراً لعدم وجود معلومات وافرة عنه، وسأقتبس هنا عداً من الردود والتعليقات اللطيفة التي تحمل في طياتها حنيناً لطفولة عَبرت: "شعور غريب وأنا مودية عيالي لها"، "لم تعش طفولتك إذا ما لعبت في ملاهي سناء"، "نصف الشعب لعب لعبة تصادم السيارات في ملاهي سناء.. ملاهي الطيبين"، "كنت ألعب لعبة التنين مالت الكبار في ملاهي سناء"، "تسعينيات لعبة التنين في ملاهي سناء".
تكرّر ذكر وظهور لعبتيّ تصادم السيارات والتنين الأخضر في التغريدات والفيديوهات المنشورة، فكان لا بدّ من زيارة للمكان مع شخص أعلم به، يروي لي عمّا تبقى من ملاهي سناء في ذاكرته الطفولية. هنالك دهشة وحماسة مختلفة تظهر في عيون الكبار عند زيارة أماكن الطفولة، تلك التي كان يسرح فيها خيالهم، في رؤية العالم المرئي بعكس ما كانوا يرونه في الطفولة، كلعبة التنين مثلاً، حيث كانت تبدو لهم أضخم لعبة موجودة في المجرّة، وأسرع قطار من الممكن أن يركبوه في حياتهم، بينما يدركون الآن أنّ ذاك الهائل، لا يتجاوز طوله ثمانية أمتار تقريباً، وتلك الرؤية، لم تكن سوى نتاج منظور طفولي للعالم من حولهم.
من هنا تأتي أهمية استدامة الأماكن التي تحفظ ذاكرتنا المكانية؛ للربط بين أجيال مختلفة من الآباء والأبناء؛ من أجل تقليص الفجوة التاريخية والثقافية بين الجيلين، ليس لحفظ التاريخ فقط، بل لجعل جيل الأبناء جزءاً حاضراً من تاريخ آبائهم، الحاضر الذي بالضرورة سيصبح ماضياً، تاريخاً فيما بعد. إنّ الإبقاء على أماكن تحمل قيمة معنوية كبيرة في ذاكرتنا مهم لصون الذاكرة الجمعيّة من أن تضمحلّ مع مرور الوقت، باعتبار أنّ الذاكرة محكومة بالنسيان ما لم يكن هناك معلم مادي يصوّرها في وقتٍ تغلب فيه الهُوية العولمية على الخصوصية وتكتسحها، جارفةً معها ذكريات الزمن الجميل، إلى حدّ قبولنا بواقع طارئ، جعلنا ننظر إلى مسألة استبدال الأماكن، وإغلاقها، أو حتى اقتلاعها على أنها أمر بدهيّ، وحتميّ.
الإبقاء على أماكن تحمل قيمة معنوية كبيرة في ذاكرتنا مهم لصون الذاكرة الجمعيّة من أن تضمحلّ مع مرور الوقت
تحدثت الكاتبة القطرية، نورة آل سعد، في مقال عنوانه "هنا والآن.. الذاكرة.. المكان" نشر في جريدة الراية، عما شهدته الدوحة من تغيّرات مباغتة بشكل تحليليٍ مفصّل بعدد من الوقائع. حيث أشارت فيها إلى ما أورده الفنان التشكيلي فرج الدهام القطري في ورقة له نشرت بعنوان "الهدم والبناء في مدينة الدوحة: مفاهيم ثقافية حول تغير المكان" أنّ: "حركة الهدم هي العلاقة الأوثق للحقيقة التي تشهدها الدوحة. في سنواتها الأخيرة، تمكن الرائي من تفسير حالة التباين بين ظاهر الشيء وما خفي في حالته المتهاوية إلى حين موعد اختفائه الكلي، يصل المتلقي والمشاهد في نهاية الأمر للنتيجة.. أطلال وبقايا أثر وذاكرة متلاشية".
هنالك مثالٌ جليٌّ على اختفاء مزارٍ قضى فيه الآباء شبابهم من الذاكرة، بعدما قضوا صباهم في سناء، وهي: ملاهي/مملكة علاء الدين، التي كانت تقع في الحيِّ الثقافي (كتارا)، ولهذا أثناء البحث، وجدت عدداً قليلاً ممن يذكرونها، ومن أتوا على ذكرها، لا بدّ أن يسبقوه باستحضار ملاهي سناء. وعلى الرغم من أنها كانت أوسع مدينة ترفيهية بنيت بقصد تعزيز التراث الثقافي ودمجه بالمتعة، فإنّ السباق المحموم نحو مدينة حداثية قد نجح في محوها، دون أن يترك رفاتاً للرثاء عليها، أو أطلالاً تنعش ذكراها.
هكذا، مع مرور السنين بكلّ بساطة، تُبنى مدن جديدة على أنقاض مدن أخرى؛ لنركب موكب الحضارة العالمية، ونكمل مسيرة استنساخ المدن، فتصبح مدننا شبيهة بمدن بعيدة أخرى، ونغيّب حكايا أماكن كنّا نتوق إليها فيما مضى، وذكرى من صَاحبناهم فيها، ونبقى بذكريات مطموسة غير محدّدة المعالم أشبه بمنام قد ننساه للأبد.
كتبت هذه المقالة احتفاءً، ورغبةً في أرشفة ذكريات طفولة عزيز.