مضمار البوكر ومزاعم عصر الرواية
في إحدى المرّات، دعاني صديق صحافي إلى بيته. بقيتُ متردّداً للحظة بشأن الهديّة التي لا بدّ وأن أهديها لمضيفي، فخطرت لي فكرة إهدائه رواية.
في مكتبة المدينة، بشارع محمد الخامس، مررتُ أمام صفٍّ من الرِّوايات العربية والأجنبية المترجمة. وقد كان عليّ أن أختار بينها. لم يكن لديّ وقت، كما لم يكن الاختيار صعباً في الحقيقة. فقد تجاهلتُ بغريزتي النّقدية الرّوايات العربية، بما فيها تلك المدعومة بالبوكر، وركّزتُ انتباهي على قائمة الرِّوائيين الأجانب، وأسماء مترجميهم. فانتقيتُ إحدى روايات بول أوستر. فعلت ذلك بلا عناء تفكير، فتجاربي السّابقة عقدت بيني وبين الرّوايات المترجمة ميثاقاً من الثقة، وهو ما لم يكن مع الرِّوايات العربية للأسف الشّديد.
قد أُوعز نسبة من هذا التصرّف إلى شيء من الغضب لديّ، حيال ثرثرة الصفحات الكثيرة التي وَضَعَتْ معظمها هنا على الرّف، إغراءاتُ الجوائز. فحتى الآن، لم أقتنع في حدود ما قرأت، بأيّة رواية عربية (بما فيها المغربية) جالت بها أبواق الدِّعاية، في وصولها إلى القائمة القصيرة أو الطويلة، أو حتى تصدرت كلّ هذا السِّباق. شيء عجيب، أليس كذلك! لستُ أحكم بالمطلق لأنّني (وللأمانة) لم أقرأها كلّها. لكن ما قرأتهُ (وهو لا يقل عن بضع صفحات بسبب التثاؤب) كان كافياً لأعزف عن تصديق كلّ هذا الضجيج. عليّ ألّا أكون قد تشبّعت بكلّ ذلك الكم من الرّوايات في حياتي، وتلك الكتب، حتى أجد فيما أقرؤه ما أتجنّب وصفه بتدوير الأدب حدّ الممل.
لا أعرف إلى الآن، كيف يكون كلّ ذلك الاحتفاء بروايات ثقيلة الدّم مُمكناً. حشو من الكلام والثرثرة التي تبلغ المائة أو الثلاثمائة صفحة وأكثر. أيّ قارئ خُرافي يستطيع أن يصمد أمام رواية بتلك الصفحات السّميكة، وقد كُدّست فيها كلّ تلك الكلاسيكيات المتجاوزة، والجمل الأدبية المتصنّعة والفكرة المتثاقلة، ثمّ الوصف الذي لا باب فيه يفضي إلى أيّ متعة أو حلم؟
أسائل الجوائز رفيعة القيمة عن القيمة حين تتدخل، بالضرورة، دوافع أخرى لا حصر لها خارج مساحة النّص
"الرّواية الجيّدة هي حلم يتقاسمه المؤلف والقارئ، وأيُّ شيء يوقظ القارئ من الحلم فهو خطيئة مُميتة"، كما يقول فيكتور ج. بانيس. وكما تقول الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا للحجر (دخلني)، أحاول أن أدخل في النّص العصيّ، فأبقى طافيَ الوعي يقظاً بسبب تلك الخطايا المُميتة.
لستُ أسائل الرّواية العربية هنا، رُبّما يطول الردُّ والكلام عند طرح سؤالها الصّعب الذي يتجاوز هويّتها العربية. لكنّي أسائل أولئك الذين يتحدثون بزهو عن أنّنا نعيش عصر الرِّواية بامتياز، بدل أن يتحدثوا عن عصر تحويل الكُتّاب إلى أرانب للسِّباق؛ وعن رفع الرّواية إلى عرش صدارة الأجناس التعبيرية بقوّة المال، وليس بأيّ زعم آخر.
أسائل الجوائز رفيعة القيمة عن القيمة حين تتدخل، بالضرورة، دوافع أخرى لا حصر لها خارج مساحة النّص (...). أسائل القرّاء أيضاً، الذين لا يثقون إلا بهؤلاء "اللامعين" الذين أفرزتهم الأمزجة والأهواء ومصالح أطراف كثيرة متشابكة ومعقّدة، وعلى ذلك (للأسف الشديد) تُبنى ذائقة الأجيال الجديدة. بينما باقي الكتّاب الذين لم تتلق وجوههم أضواء البوكر، يظلّون كما لو أنهم مجرّد كميّة عددية فائضة. لست أسائل الرّواية العربية حتى في حدودها كرواية عربية، لأنها قادرة على إنجاب روائيين مقنعين، شرط تراجع الإعلام التّجاري عن التحكّم بالذّوق، والعودة إلى حكم القارئ والنّاقد بدل جعلهما أداة في يد منظومة مهيمنة تحتكر وحدها السّاحة الثقافية، فيما يهلّلُ الجميع كما ينبغي لهم أن يهلّلوا.
في عام 2001، وجّهت الكاتبة الاسكتلندية، أليسون لويز كينيدي، بعض الكلمات القاسية حول جائزة البوكر البريطانية، معتبرة إياها بأنها "كومة من الهراء الملتوي". وقد رفضت كينيدي سابقاً، عندما كانت عضواً في لجنة التحكيم لجائزة عام 1996، عملية الاختيار ووصفتها بأنّها فاسدة، قائلة: إن الفائز يجري تحديده على أساس "من يعرف من، ومن مُغرمٌ بمن، ومن متزوج بمن، ومن يجب أن يأتي عليه الدور". أمّا عن زملائها في اللجنة، الذين منحوا الجائزة لغراهام سويفت عن روايته "الطلبات الأخيرة"، فقالت: "لقد قرأت الـ300 رواية، ولم يفعلها أيّ وغد آخر"؛ وقد تبيّن فيما بعد أنّ هناك أوجه تشابه بين الرواية الفائزة، ورواية "بينما أرقد محتضرة" للمؤلف الأميركي وليام فوكنر.
الرواية العربية قادرة على إنجاب روائيين مقنعين، شرط تراجع الإعلام التّجاري عن التحكّم بالذّوق، والعودة إلى حكم القارئ والنّاقد
لم تكن أليسون لويز كينيدي هي الوحيدة من انتقدت الجائزة، بل ثمّة قائمة طويلة من الغاضبين ممّن شكّكوا في نزاهة البوكر، لا يهم إن كانوا دائماً على حق، لكنّهم قلبوا الطاولة؛ ثم انصرفوا عن الكتابة برمّتها، أو انعزلوا عن مجتمع الجوائز. ليكتبوا ويقرؤوا بهدوء، وفي سلام مع النّفس، بعيداً عن ما تثيره زوابع الطبائع البشرية أمام شهوة المال والشهرة من غشٍ وتزوير، بل وابتزاز أيضاً، كما حصل في عام 1977 حين هدّد رئيس اللجنة فيليب لاركين، برمي نفسه من النافذة إذا لم تفز رواية "البقاء" للكاتب بول سكوت. وقد ألقى ابتزازه التراجيديُّ/ الكوميديُّ هذا، بثقله على الجميع، فظفرت الرواية بفوز مريب، لا نعرف إن كان مستحقاً أم لا!
عربياً، أخذت تظهر تلك الجدالات نفسها مع ظهور الجائزة. استهلّها الناشر الرّاحل رياض الرّيس، الذي اعترض على الكيفيّة التي تدار بها تلك المؤسسة؛ ولا أظنّ أنها ستنتهي عند الناقدة شيرين أبو النجا التي انسحبت من اللجنة لغياب المعايير النّقدية الواضحة في تقييم الأعمال المشاركة، وإحجام أعضاء لجنة التحكيم عن إقامة حوار نقدي موسّع حول كلّ رواية. وميلهم لاعتماد آلية التصويت الرقمي للروايات، ما جعل عملية الاختيار والترشيح أشبه بلعبة الروليت (على حد تعبيرها) أكثر منه عمل لجنة تحكيم جائزة أدبية متخصّصة.
وأخيراً، ليس في نيّة هذا المقال إحداث فرقعة في بالون ينفخ فيه الجميع، كما لستُ ضدّ الجوائز؛ لكنني أعرف أنّ هذه التجربة في نسختها العربية المُقلّدة هي بالضرورة والحتمية (وإن عن غير قصد) لن تقدّم سوى المزيد من اللغط، والخيبة والإحباط للكثيرين مقابل كلّ مزاياها المغرية. وفي المحصلة، إنّها ليست إلا شكلاً من أشكال البيروقراطية الموجّهة لصناعة أدب برّاق من الخارج كالأغلفة، بينما قبضتهُ على النّص المستحق شبه زلقة.
أتساءل مع نفسي: لو، كانت ثمّة سياسة ثقافية حكيمة يظل فيها الحُكم للقارئ أوّلاً، أو كنّا (حسب الزّعم الذي يجري تسويقه) في عصر الرّواية العربية، هل كنت أتجاهل مثلما يفعل (ولا شك) قرّاء كثيرون مثلي، العرض العريض لروايات كُتّاب لغة الضّاد لأقصد بخطوات واسعة واثقة بشكل غريزي، جنّة السّرد المُترجم؟
الجواب طبعاً، هو لا.