محاسبو الإدارة

14 يوليو 2021
+ الخط -

مع بدء عملي في مديرية الخدمات الفنية بالرَّقة، في عام 1993، والذي استمر لأكثر من عشرين عاماً، لم أكن أعرف ماهية الأعمال التي تقوم بها بالضبط، وكيف تسير المهام فيها ولمن تلزّم، وما أكثرها تلك الأعمال التي تقوم بطرحها للمناقصة العامّة من مشاريع طرق وبناء مدارس وغيرها، على الرغم من كثرة المتعهدين الذين لطالما كانوا يتسابقون للفوز بمشروع تنفيذي، وإن كان صغيراً، فضلاً عن العاملين فيها، وتنوّع مصادر الدخل لأغلبهم، وبصورةٍ خاصة، محاسب الإدارة وحاشيته؟!

وكان يرأس منصب محاسب الإدارة حينذاك أحمد جوّاش، وهو موظف بسيط في هيئته، وفي ملامح شخصه، إلّا أنّه في الواقع ذكي جداً.. لمّاح، وعلى علاقة متينة مع السادة المحافظين الذين كانوا يتوّلون إدارة المحافظة ويشرفون على خدماتها، ونَهب ما تيسّر لهم من المال العام بذرائع مختلفة!

وتوزّعت أدواره بحيث إنّه استمر في شغل منصبه محاسباً لإدارة في المديرية لفترة طويلة من الزمن، هكذا كانت تسميتها، وكانت علاقاته مميزة ومتفرّدة مع الجميع، ويحاول بذكائه وفطنته كسب ودّهم، ووضعهم تحت عباءَته، لأنه كان يشغل منصباً كبيراً، وميزانية المديرية كانت تتجاوز في حينها المليار ليرة سورية، ما يعادل عشرين مليون دولار أميركي، ونفقات المديرية لا أحد يمكنه أن يحرّر فيها ليرة سورية واحدة إذا لم يُذيل أمر الصرف، الذي تعده المديرية، بتوقيع محاسب الإدارة ومديرها، ويُرسل للتوقيع عليه من قبل المحافظ ويصدّق بخاتمه الرسمي.

كان أحمد جوّاش، وفريق المحاسبة الذي يشرف عليه، نموذجاً آخر في خدمة المحافظة، ولفترة عاشتها الرّقة في ذروة عطائها في الفترة التي سبقت الخراب والدمار اللذين حلّا بها

 

أحمد جوّاش إنسان أمّي لم يتجاوز تعليمه الصفوف الدراسية الأولى، إلّا أنّه استطاع أن يصل إلى مركز حسّاس بخبرته، التي كسبها، وبعلاقاته الطيبة مع رأس الهرم، وهذا ما فسح المجال أمامه للعب بأموال المديرية متى وكيف ما شاء، ويعيّن من طاب له من الناس الباحثين عن العمل ويوظفهم فيها دون العودة إلى الإدارة، لأنه هو العامل الوحيد ولا أحد سواه الذي يقرر مدى توافر الاعتماد المالي المخصص لتعيين عَمر وزيد من الناس، وتحاول المديرية إرضاءه لأجل تمرير ما لذّ وطاب من أوامر الصرف الصادرة من قبلها، والتي أكثر ما كانت تخصّ المتعهدين الكبار، ولجان الشراء التي يُعد أحد أعضائها الرئيسيين، فضلاً عن دوره المميز في تكليف المحاسبين، وفي انتقاء واستصدار الأوامر الإدارية الخاصة بتكليف لجان الإشراف والتنفيذ والاستلام، وحتى الدراسات بالنسبة للطرق التي تشرف المديرية على تنفيذها،  فضلاً عن المدارس التي تقوم ببنائها. ومن بين مشاريع الطرق ما هو وهمي، بدليل تكرارها في الجدولة التي تسبق الموافقة على اعتمادها من قبل الفنيين المشرفين عليها في قسم الطرق، الذين يقترحون اختيار المشاريع المراد تنفيذها، والتي يجرون لها الدراسات الفنية الأولية والكلفة المالية لها، وكما هي العادة مع نهاية كل عام!

كان أحمد جوّاش وفريق المحاسبة الذي يشرف عليه نموذجاً آخر في خدمة المحافظة، ولفترة عاشتها الرّقة في ذروة عطائها في الفترة التي سبقت الخراب والدمار اللذين حلّا بها، واستثمار مبالغ المديرية المخصصة لها بصورة مباشرة، لا سيما أنه يُعد آمر الصرف المباشر لكل ما يُعدّه وما يُقدمه من وثائق خاصة بأوامر الصرف الصادرة عن المديرية، وما استفاد منه المحاسبون من صندوق المديرية فاق ما كسبه كبار المديرين في الرّقة، وحتى في الإدارات المركزية في الوزارات، بدليل أنّ المواطن لمَس، وبكل وضوح، علامات النعمة التي ظهرت على أغلب العاملين في قسم المحاسبة بصورة خاصة، بالإضافة إلى ما كشفت عنه لجان الرقابة المالية والتفتيش من عمليات اختلاس وتزوير، إلّا أنها لم تقم بدورها على أكمل وجه، بل فضّلت التستّر على المخالفات مقابل قبضها مبالغ مالية لقاء سكوتها وغض النظر عن مخالفاتهم، والنتيجة استمرار المخالفات وبكل وقاحة، يوماً بعد آخر وعاماً بعد عام، وبإشراف لجان الرقابة التي لم يكن بمقدورها أن تفعل شيئاً حيال محاسب الإدارة لأنه كان محصّناً ومدعوماً هو وفريقه من قبل المحافظين الذين توارثوا سرقة المحافظة ونهب مقدّراتها.. ولم يكتفوا بسرقة ميزانية مديرية الخدمات الفنيّة فحسب، وإنما وصل الحال إلى التعدّي على كافة المديريات والشركات والمؤسسات التي لم يَفُتْهُم أن يستفيدوا من ميزانيتها المعدّة ومن نفقاتها، وهكذا تحوّل حال أغلب محاسبي الإدارة في الرَّقة، الذين تشرف على تعيينهم مديرية المالية في المحافظة، إلى حيتان كبار، وصاروا من أصحاب رؤوس الأموال والممتلكات والمشاريع العملاقة، وهذا حالهم اليوم.

دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.