متى ستعود إلينا الخرطوم؟
قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب الجارية الآن في السودان، كنت وبعض الزملاء في رحلة سفر علمية إلى إحدى القُرى بولاية النيل الأبيض، بعيداً عن الخرطوم، فاستقبلَنا أهل تلك القرية بحفاوة بالِغَة وترحابٍ جمّ، وقضيتُ هناك أياماً، لشدّة جمالها وجمال الأنس بأصحابها، حسبتُ أنّها لن تتكرّر.
إلا أنّ هنالك شعوراً مريراً ظلّ يلازمني طوال الوقت، فأخذ يكدّر عليّ صفْوِي ويُنَغّص عليّ معيشتي؛ إذ كنت أشعر بشعور مَن يفتقد شيئاً ما ولا يدري ما هو، ويتعاظم هذا الشعور بمجرّد سماعي لاسم الخرطوم. لأكتشف بعدها أنني، برغم سعادتي تلك، كنت أفتقد الخرطوم بشدّة، وتحديداً مدينة أم درمان بكلّ ما تحوي.
ثم توالت الأيام وألقت علينا الحرب بظلالها، فنزح الكثير من أهالي أم درمان وتشرّدوا في ربوع الوطن المكلوم وخارجه، فغدوت أهيم في الشوارع أحياناً، مفتقداً الجلبة التي كان يُحدِثُها أهل المنطقة، وعادت إليّ أسقامي التي تركتها بولاية النيل الأبيض فور مغادرتي لها وأنا متجه صوب العاصمة. لأكتشف ثانيةً، وفي غمرة الحزن تلك، أنّ أفتقادي لسكان الخرطوم لا يعدو أن يكون أقلّ ألماً من فقدي للخرطوم نفسها، وأنّ المكان بلا ساكنيه مثل الجسد بلا روح.
وإلى الآن لا أزال أجوب شوارع هذه المدينة، مدينتي أم درمان، أطوف ساحاتها وأسواقها العامة، ومن ثم أقصد الأحياء وأزقتها، فأقضي النهار بطوله أتنقل بين تلك الأحياء الشبيهة بالقبور، أهيم فيها بحثاً عن شيء لا أدري كُنهه، لعلّي أبحث عن الناس أو عن أصدائهم التي تركوها هنا... عن ضحكاتهم التي أودعوها الطرقات وأهازيجهم التي لطالما زيّنت جنبات المدينة وضجيجهم الذي كان يملأ الأرجاء، ويا للمفارقة! فقد كنتُ أبحث من قبل عن أم درمان مكاناً ووجهة، واليوم أنا في بحث عن سكانها وما خلدوه من ذكرى!
افتقادي لسكان الخرطوم لا يعدو أقل ألماً من فقدي للخرطوم نفسها، فالمكان بلا ساكنيه مثل الجسد بلا روح
أمرّ على الطرقات، فأجد أنّ جميعها يستحق عناء السير. وتبدأ مخيلتي في استدعاء الذكريات، فمع كلّ طريق أستعيد ذكرى غابرة لأيامٍ ولّت، وكلّ ذكرى توقظ في ذهني المزيد من صور الماضي حيث الأنس بالرفاق ومعهم.
أتأمل منازل مدينتي المهجورة وأبنيتها الآيلة إلى السقوط، فأجدها بين صريع ما به حراك، ومصاب تهدمت أطرافه، وبين مَن لفحته نيران الحرب، فاتشح بسواد الأدخنة، ومَن بهت لونه وفقد زينته جرّاء التشريد والتهجير، وأغلبها أطلال معفرة، إلا أنّ القليل منها ما زال يؤوي ساكنيه. أمّا أسوارها الهزيلة المائلة فقد زادت من انحنائها وكأنّها تودّ أن تؤازر ساكنيها وتخفّف عنهم وطأة الحزن تلك.
أتفرسها مليّاً، ومن ثم أُقبِلُ عليها لأصافحها فيلفحني شذى عطرها المختلط بالأدخنة والأتربة وتلسعني ألسنةُ لهيبٍ ما زالت تضطرم بفنائها... ولأنني لا أقوى على الأقتراب منها، أمسحها بعينيّ لأُزيل ما علق بها من سواد، وأطرد عنها ما ألمّ بها من وحشة، فأعجز عن مواساتها، فأودّعها وبحلقي غصّة أصعب من أن تترجم بالكلمات.
حزن دائم يرافق الصغير من أبناء مدينتي والكبير، لا يخفت ولا يزول
أترك قدميّ للطريق، فتأخذني عشوائية خطاي لأطوف معظم الأحياء، وفي نهاية اليوم أجدني أمام منزلي وفي قرارة نفسي نيّة تكرار هذه الزيارة مع صباح اليوم التالي، لأعبئ قلبي بما بقي من أريج هذه الأماكن قدر المستطاع قبل سقوط وشيك لهذا الجسد الهزيل.
وأنا إذ أمشّط تلك الطرق والأرصفة، أرى انعكاس الحزن على أعين مَن بقي من السكان، حزن جليّ يسهُل تمييزه من أوّل وهلة، حزن دائم يرافق الصغير منهم والكبير، فلا يخفت ولا يزول. وبإمكانك أن ترى وجوههم المكفهرة تزداد امتعاضاً وألماً فور رؤيتهم لمَن لا يحمل من هذا الحزن ما يكفي، يرمقونه كما يرمقون شخصاً مذنباً في حق البشرية ككلّ، يطاردونه بالنظرات أينما ولّى، والدهشة تعلو وجوههم وذات الحزن يكسوها. حزن أصبح يجثم على صدورهم ويخيّم على مساكنهم، يكبر ويتفاقم مع مرور الأيام، ولا يرحل إلا بموت صاحبه.
والسؤال هنا: متى سنتخلص من قبضة هذا الحزن المميت لتعود إلينا الخرطوم التي نألفها وتألفنا؟ تمضي الأيام ونحن في انتظار خبر يفتح لهذا الأمل باباً بتنا نحسبه صدئاً من كثرة الانتظار.