"حِمّيد"... عن شاعرٍ بمثابة وطن!
يمثل الشعر اتكاءة جميلة وفاصلاً وجدانياً رقيقاً على نظمٍ أدبيّ فريد، كما يُعتبر أداة فعّالة للشاعر في الدفاع عن قضاياه ومبادئه، وتخليد سيرته ومآثره، والتعبير عمّا يختلج بصدره ويجول بخاطره، حبّاً كان أو بغضاً. وإنّ بلداً مثل السودان، كغيره من الأقطار، تميّز بشعراء أفذاذ، ملأوا الساحة بمختلف صنوف الشعر. ومن هؤلاء، شاعرنا الكبير، محمد الحسن سالم حِمّيد.
"حِمّيد" الذي عُرف بشاعر الوطن والنضال، استطاع أن يخلّد لنفسه مساحة خاصة في قلوب السودانيين. كيف لا، وقد أمضى عمره مناكفاً للأنظمة السُّلطوية، وظهر مؤيداً للحق في جميع المناسبات، فدافع عن البسطاء والمنكوبين، وحمل قضايا الوطن على عاتقيه، ولم يتوانَ عن الوقوف بوجه كلّ من سوّلت له نفسه المساس بأرض السودان، سواء كان من جلدة أبناء هذه البلاد أو مستعمراً طامعاً بما تجود به خيراتها؟ فكان بذلك لسان المواطن وصوته المُعبِّر عن حاله ومطالبه، والمدافع عن حقه وكرامته.
وقد نجح في إبراز مفهوم الوطن كسمة أساسية وغَرسِ معنى الوطنية وتجذيرها في أذهان أهالي السودان؛ بأشعار قوية جذلة جادت بها قريحته الأدبية وصدح بها صوته الجهور، كما ساهم في تشكيل وعي المواطن السوداني فكرياً وسياسياً، وساهمت أشعاره الداعية لنفض غبار الظلم والخنوع في تغذية الحسّ الثوري.
عاش "حِمّيد" حياة البسطاء، فعاصَر معاناتهم وتشرّب بساطتهم وخَالَط عامتهم، فكان أدرى الناس بحالهم، ولم يتردّد في الدفاع عنهم وعن حاجاتهم، بل ومدّ يد العون لهم. وإن كان نصف شعره للوطن، فنصفه الآخر كان لهم، حتى إنّ قصائده كانت بالعامية السودانية، فهي الأقرب لفهم عامة السودانيين، وخصوصاً البسطاء.
ساهم "حميّد" في تشكيل وعي المواطن السوداني فكرياً وسياسياً، وساهمت أشعاره الداعية لنفض غبار الظلم والخنوع في تغذية الحسّ الثوري
وعاميته البسيطة تلك لم تمنعه من بلوغ مُرادِه، إذ صال وجال في القضايا الاجتماعية التي ما انفكت تشغل الرأي العام، وعبّر عن رأيه صادقاً في السياسة ونكّل بالسياسيين، فذاق مرارة الأسر عدّة مرات ونُفِيَ في سبيل ذلك، ولم يزده الأمر إلا تمسّكاً بجمر القضية واستماتة في الدفاع عنها بكلّ ما أُوتي من قوة، ولم يعرف التخاذل إليه سبيل.
تميّزت أشعار حِمّيد بقوة الألفاظ وجذالة المعنى، وجمعت بين بساطة التركيب وسموّ الغرض، وكانت أشعاره تنبض نضالاً ووطنية خالصة، داعية، في مضمونها، لنُصرة الحق وناشِدَة للحرية، ومعبّرة عمّا يعتمل في صدور المواطنين، تترجم ما تتعالى به شوارعهم هتافاً، لذلك كان دوماً حاضراً بأشعاره في شتى المحافل والمناسبات؛ فما من مناسبة وطنية تخصّ البلاد أو تحمل معنى من معاني النضال، إلا وذُكِر فيها حِمّيد!
بجانب نضاله المتواصل، اشتهر حِمّيد بالبساطة المفرطة، وظلّ على بساطته تلك حتى أوان رحيله.
رحل حِمّيد إثر حادث مروري، مخلّفاً وراءه عدّة دواوين شعرية منها: ست الدار، الجابرية، أرضاً سلاح، مجموعة نورا وغيرها.
رحل وفارق دنيانا، إلا أنّه ما زال حاضراً ملء حواس جميع السودانيين، في أتراحهم قبل أفراحهم... رحل عنّا وما زالت الذاكرة تضجّ بسيرته والشوارع تصدح بأشعاره والمواكب تعلو هتافاً بكلماته، والمواطن يتغنّي بنضاله ويُمجِّد سيرته حتى يومنا هذا. فحِمّيد بمثابة وطن، والأوطان لا تغيب عن أذهان مواطنيها.