متسوّلو الفرح... في الحاجة الإنسانية لمعايشة الفوضى
كمتسوّلين، نقف عند العتبات ونستجدي العطايا، لم نكن نطرق كلّ الأبواب، فليست كلّ الأبواب للطرق، أنتم بحضرة متسوّلين جدد، من طينة أخرى، لا يطلبون تقاسم الرغيف معهم، فبطونهم مليئة بالقليل، ولم يخرجوا إلا بعد أن تعشّوا، فيما جلاليب الفرح على أكتافهم.
متسوّلو الفرح هؤلاء، متأهبون لصيد لحظة من السعادة أو لصنعها في عرس من الأعراس التي تقام في ليالي الصيف. درعهم طبول، ونبالهم كلمات وقصائد جاهزة لتحويلها إلى أغانٍ "وإحيداس"، تقصف بها النساء دون مقاومة، إلا بالزغاريد.
كان البيت الذي نقف أمام عتباته كزاوية، دون جثمان الولي الصالح اليوم، وليٌّ حيٌّ، وليّ الليلة، مكسواً بالأبيض، بدر على السطح... مستعد ليمطر الناس لوزاً، في ضرب من التأله المؤقت. لم يكن ضرورياً الإدلاء ببطاقة دعوة للدخول، نحن في حضرة فرح معمّم، يمكن أن يفيض بعضه إلى خارج الدار، يقتات من شظاياه بعض المارين "المتعشين المتمشين"، والسكارى المرابطين في الجنبات؛ يسترقون النغمات والنظرات، الجميع مدعو، تخمة في الأطعمة، بذخ في الترحاب، ولا غريب الليلة، الكل ينتمي إلى نادي الفرح.
نحن بإزاء أخلاقيات الصحراء حيث أشياء قليلة جداً تكون مصدر متعة واستمتاع كبيرين، كما لو أنها تعيد للتضامن شأنه وشأوه.
لا أحد يعرف ما سيقع عندما تنطلق الشرارة الأولى لهذا العرس، هذا الطقس الإنثربولوجي العظيم، فأن يلتقي ذكر وأنثى في ثقافة ما، لم يكن قَطّ واقعة عادية، بل يُرتقى به إلى مرتبة الحدث، أو المناسبة، لنقل الفرصة الاجتماعية لممارسة ضرب من النسيان المعياري للمعايير، تعليق للأخلاق الاجتماعية، حالة طوارئ إيتيقية، إعادة بعث الفوضى في النظام، كسر المتماسك، نسف للحواجز اليومية بين الرجال والنساء.
أشياء قليلة جداً تكون مصدر متعة واستمتاع كبيرين، كما لو أنها تعيد للتضامن شأنه وشأوه
تحرير الجسد من فكرة القداسة والزج به في ساحة عامرة بأجساد أخرى راقصة، العيون مسمّرة كأعمدة كهربائية تضيء المكان بالفضول، ممتطية صهوة النزوة.
الاحتفاليات عموماً، تكمن خاصيتها في العجز الإنساني عن التنبؤ بالمسار أو المسارات التي ستأخذها، قد تنتهي إلى مأساة، إما آنية وإما مؤجلة تصرف على دفعات، الغلو من أهم مكوناتها، ويتحيّن أول فرصة الظهور، فترى الناس يتوجهون إليها بحثاً عن المغامرة.
في خضم هذا الغليان والغلو لا يمكن إلا أن نخلص إلى ما قاله عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، ميشيل مفيزولي: "لا وجود لمجتمع ليس بحاجة، من حين لآخر، إلى إعادة النظر في نظامه الموغل في الرزانة والحكمة" من الحفلة العائلية إلى الكرنفالات متعددة الوجوه، مروراً بالأعراس، حيث نكتشف الحاجة الإنسانية لمعايشة الفوضى الأولى (الكاوس) وإرخاء العنان للذوات.