ماهية القضية الفلسطينية
إليك سؤال: هل القضية الفلسطينية قضية سياسية ودينية، أم سياسية فقط، أم دينية فقط؟
إن ما بيننا وبين الكيان الامبريالي المُسمى بإسرائيل ليس صراعًا على الأرض فقط، وإنما صراع كذلك على الماضي؛ التاريخ، فكما قال المُفكر فراس السواح: "ويتحول الصراع على الماضي إلى صراع على الحاضر، من خلال ابتكارات خيالية لماضٍ يُعاد بناؤه بشكل تعسفي" (تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود، صـ9)، فإسرائيل تُصارع على محو تاريخ له دلائله وبقاياه إلى يومنا هذا، لتبتكر لنفسها تاريخًا ليست له صلة بالواقع، وسنأتي لذلك فيما بعد.
ولكن ما أود الإشارة إليه أن أي تفريط في أدنى جزء من ماضينا السياسي والديني في فلسطين سينعكس على آرائنا، وفِكَرِنا، ومواقفنا أيضًا فيما بعد، وسيكون ذلك في صالح الكيان الامبريالي وليس في صالح العرب؛ لأن الماضي هو تفسير للحاضر، والحاضر تفسير للمستقبل. يقول المُفكر إدوارد سعيد: "ما يفوق الماضي أهمية، هو تأثيره وعواقبه على المواقف ووجهات النظر الثقافية في الحاضر" (الثقافة والإمبريالية، صـ87).
***
وهنا نأتي للسؤال المذكور في الأعلى: هل فلسطين قضية دينية أم سياسية؟
لقد انتهج بنو صهيون منذ أول يوم احتلوا فيه فلسطين خطة طويلة المدى بعيدة الأثر؛ فأساس مُخططهم يكمن في زعزعة أساسيات القضية وأركانها عند العرب، وقد تجلى ذلك أولَ الأمر في التشكيك بالأحقية السياسية لفلسطين، وكان ذلك من خلال الشبهات التي روجها بنو صهيون عن الشعب الفلسطيني؛ بأنه هو من باع أرضه للعصابات الصهيونية الإرهابية وتخلى عنها بمحض إرادته! وهذه الإشاعات والشبهات التي حاكها الخيال الصهيوني تلقَّفها بعض العرب، فبدؤوا يشعرون بمأزق وأن ليس لهم من فلسطين شيء يدافعون عنه من الناحية السياسية، أوَلَم يتخلَّ الفلسطيني عن أرضه؟ فلماذا أتدخل أنا إلا لوازع ديني فحسب؟
ومع الأسف، قد آمن بهذه الخدعة عدد لا بأس به من مُفكري العرب.. حتى تجرأ البعض فقال إن فلسطين قضية دينية فحسب وعلينا بـ(أسلمة القضية – أدلجة القضية). وقد عاد ذلك بالنفع على إسرائيل، فالقضية الفلسطينية تقوم على دعامتين أساسيتين لا يجب أن تفترقا؛ الدعامة الأولى دعامة سياسية تتبلور في أن فلسطين قضية سياسية تشمل الأرض، والقانون، والعَلَم، والشعب، والحقوق وهلم جرًّا إلى باقي الأمور السياسية. والدعامة الثانية دعامة تاريخية دينية تقوم على أن فلسطين قضية تاريخية ذات بُعد ديني لكل مسلم ومسيحي، أساسها تلك التركات الدينية الموجودة في فلسطين وتحديدًا القدس؛ من مسجد الأقصى وكنيسة القيامة وهلم جرًّا إلى آخر الأمثال.
انتهج بنو صهيون منذ أول يوم احتلوا فيه فلسطين خطة طويلة المدى بعيدة الأثر؛ فأساس مُخططهم يكمن في زعزعة أساسيات القضية وأركانها عند العرب، وقد تجلى ذلك أولَ الأمر في التشكيك بالأحقية السياسية لفلسطين
وبنو صهيون بُنيت أوهامهم كذلك على دعامتين رئيستين؛ الدعامة الأساسية دينية، والتي رأى اليهود فيها أن فلسطين أرضٌ لبني إسرائيل المشتتين فحسب، ففيها - ولا صحة لذلك الادعاء - بقايا مملكة داود وسليمان، وللأخير هيكل فيها تحت المسجد الأقصى! والدعامة الثانية دعامة سياسية تستمد شرعيتها من الدعامة الدينية، والتي ترى أن الأرض وما حوته لهم بموجب ادعاء أن الفلسطيني باع أرضه لهم!
وبالنظر إلى دعامتَي العرب ودعامتَي الصهاينة، سنجد أن هناك علاقة عكسية بينهما، فكلما حدثت زعزعة أو تقلص في إحدى الدعامتين عند العرب أو الصهاينة، يؤدي ذلك إلى تقويّ وازدياد نفس تلك الدعامة عند الجانب الآخر، سواء من العرب أو الصهاينة، فمثلًا، عندما قالوا إن الفلسطيني باع أرضه وبذلك ليس للعربي أن يُدافع عنها كقضية سياسية، اقتصرت القضية على كونها قضية دينية فقط، في نفس الوقت كانت الدعامة السياسية عند اليهود تتمدد وتتزايد بسبب تآكل الدعامة السياسية عند العرب.
والآن بعد أن اقتصرت القضية الفلسطينية عند البعض على كونها قضية دينية فقط تعتمد على ما لنا فيها من تركات ومرويات تراثية وغيرها من الأمور، بدأ المُخطط الصهيوني في إضعاف هذه الدعامة أيضًا، وذلك منذ بداءة القرن الحالي، عندما ظهر بعض المفكرين المُتشربين لدعاوى بني صهيون، والذين بدؤوا بالتشكيك في تركة المسلمين وكذلك المسيحيين الموجودة في القدس، فمثلًا، من الأساسيات التي تقوم عليها الدعامة الدينية للقضية الفلسطينية قصة الإسراء والمعراج، كان المسلمون قبل ذلك إن اختلفوا، فإنما يختلفون في ماهية المعراج هل كان بالروح أم الجسد (مجلة المنار، مجلد 19، صـ276)، أما الآن فقد خرج بعض المحدَثين الذين يشككون في ماهية الإسراء، نفسه مدّعين أن الإسراء لم يكن لفلسطين، وإنما كان لإحدى المناطق بالطائف في شبه الجزيرة العربية، ومن هؤلاء المُفكر القرآني أحمد صبحي منصور صاحب كتاب الإسراء والمعراج.
ولا أحتاج إلى أن أقول لك كيف ستكون النتيجة في المستقبل عندما تتآكل هذه الدعامة هي الأُخرى على يد أبناء الدين ذاته، فنجد أنفسنا في المُستقبل ليس لنا أي حق في فلسطين نُناضل من أجله، لا سياسي ولا حتى ديني، ونجد على الجانب الآخر أن بني صهيون قد تضخمت عندهم الدعامتان - الدينية والسياسية - اللتان ابتدعوهما بلا دليل.
***
وبعد هذا العرض الموجز، كيف يُمكن استنهاض القضية الفلسطينية من جديد، وعندما أقول: استنهاض القضية من جديد، فهذا يعني استعادتها بأركانها ودعائمها مجددًا.
فبالنظر إلى أغلب القضايا المُماثلة للقضية الفلسطينية، سنجد أنها قضايا مُركبة لا تقتصر على شكل أو أساس واحد، لأن تركيبها المُعتمَد على أكثر من أساس هو الذي يُضفي عليها القُدسية الخاصة، وأن أي تفريط في جزء من أساسياتها يُعد مساسًا بتلك القُدسية.
فالقضية الفلسطينية قضية مُركبة، فلا نستطيع حصرها في أحد الأشكال مُتجاهلين الأشكال الأُخرى المكونة لها، فمثلًا من نادوا بأسلمة القضية، نداؤهم هذا يعني أنهم يُفرطون في شكلها السياسي وشعاراتها السياسية التي تتسع لتضم تحت عباءتها مختلف الآراء والتوجهات، فهُم بذلك ينظرون إلى القضية وكأنها تخص المسلمين دون غيرهم من العرب، رغم أن فلسطين فيها من التركات الدينية ما هو إسلامي وما هو مسيحي، كبيت لحم وكنيسة القيامة وهي أساس الحج هناك، وينتهي الأمر بذلك إلى زيادة الاختلاف في الصف العربي بسبب أن هناك بعض مَنْ نادوا بأن القضية تخصهم هم ودينهم دون الآخرين، وحسبك ما وراء ذلك من الفرقة التي لا تصب في صالحنا.
وعلى الجانب الآخر، مَن نادى بأن القضية سياسية بحتة، هو بذلك قد تجاهل كم الموروثات والتركات الدينية التي هي من أساسيات فلسطين ومن أسباب قيام الصراع حولها، فمن التركات الإسلامية المسجد الأقصى بجانب الروايات التاريخية التي تدور حول فلسطين من الإسراء إلى العهدة العمرية وهلم جرا، ومن التركات المسيحية ما ذكرناه، ككنيسة القيامة وبيت لحم حيث ميلاد المسيح، وكذلك الجلجلة التي تقع بين فلسطين والأردن حيث صلب المسيح حسب الروايات المسيحية، فكما تمثل فلسطين للمسلمين أساسًا من أسس عقيدتهم، كذلك تُمثل للمسيحيين حيث الحج هناك وموطن وقبر المسيح، فكل تلك الأمور لا نستطيع تجاهلها؛ لأنها أمور تهز الوجدان والعاطفة عند الفريقين من المسلمين والمسيحيين، فحينما نحصر القضية في شكلها السياسي دون الديني فكأننا نقتلعها من جذورها بل ونجعلها متجردة من العواطف والمثاليات، فما دفاعنا عن القضايا إلا بناءً على عاطفتنا الجياشة ومشاعرنا المُلتهبة التي تدفعنا إلى الخوض في غمار الخطر فداءً لصلب تكويننا وأفكارنا من دين ووطن!
فكما تمثل الناحية الدينية للقضية الفلسطينية الشكل العاطفي لتوجهاتنا، فكذلك تمثل الناحية السياسية الشكل العقلي المنهجي لتوجهاتنا، ولا بد للعقل والعاطفة أن يجتمعا في هذه القضية.
***