لا تقرب تدوينتي؛ فهي عن كيف نقرأ التاريخ؟
أمامي الآن 700 كلمة أعبّر من خلالها عما يدور في بالي، أو دعني أُنمّق كلامي وأقول "تدور في خلدي أو ذهني" لأظهر في صورة المدوّن المُتفلسف. تلك الـ700 كلمة لا تكفيني.. ولو صارت ألفًا؛ فلا تكفيني حتى المليون. أنا كالبحر، كلّما ابتلعَ طلب المزيدَ فاغرًا فاهُ.
أتمنى من القارئ أن يتحمّل ما أكتبه من تدوينة مُشتّتة، فأنا أحاول، في ظلّ مروري بحبسة الكاتب، أن أجد شيئًا من اللاشيء، أو من داخلي؛ فأنا كبانغو، في الميثولوجيا الصينية، الذي التقط فأسه وحطّم بيضته وأوجد عالمًا من العدم، أو من ذاته أوجده.
"بركت" على تلك التدوينة علّني أُنجزها، لكني اجتزت نصفها، ذلك لأنّها عن التاريخ، وحين نذكر التاريخ، فالحديث هنا عن الزمن وزناخته؛ فالزمن ديناميكي، مُتغيّر، أي أنه ليس بإستاتيكي ثابت، والزمن هنا يحوي بداخله مجموعة من المُفردات والعناصر، يشتمل عليها وتعتمل في أرجائه، ليكتسب صفة الصيرورة والسيرورة.
تلك المفردات تكمن في الكائنات الحيّة، النبات والحيوان، وكي يكون الزمن زمنًا، لا بد أن يعتمل في تلك المفردات، أي نرى تأثيره عليها، فعبر ملايين السنين رأينا صيرورة الطبيعية التقدمية، من نبات، فحيوان، فانشطارات، وانقسامات، وتطوّرات أودت بنا إلى مراحل شبه مُكتملة، بظهور أوّل الكائنات الواعية: الإنسان. كما لا يقف التأثير (كما تعلم) على الصورة الجماعية في حياة الكائنات الحية والحضارات، فللتأثير مدلولاته الفردية على الفرد، حين نقول: "ترك الزمان آثاره عليه/ها"، أي أنّ الزمان أحدث فعله فيه/ها، فشاب شعره/ها، أو تغيّرت الملامح كلها.
عبر ملايين السنين رأينا صيرورة الطبيعية التقدمية، من نبات، فحيوان، فانشطارات، وانقسامات، وتطوّرات أودت بنا إلى مراحل شبه مُكتملة، بظهور أوّل الكائنات الواعية: الإنسان
أظن أنّ ذلك الكلام يُعدّ بدائيًا، بل وقد ترى أنني أحاول التفلسف في الحديث، نعم أصبت، أنا فعلًا أحاول ذلك، لا لشيء سوى أنني أحاول تذكر كيف كُنت أكتب.
ليس في الإمكان أحسن مما كان، ففي عام 1976م نُشر مقال في مجلة بلاك وود، للضابط والرحالة الإنكليزي جون غلوب، والشهير بجلوب باشا، وكان عنوان المقال، الذي لم يُترجم إلى العربية حتى الآن "مصير الإمبراطوريات والبحث عن البقاء".
يتطرق الباشا الإنكليزي في مقاله للحديث عن تناولنا للأحداث التاريخية؛ فالتاريخ دائمًا ما كان يُنظر إليه عبر مدرستين، الأولى مدرسة الرجل العظيم، والتي ترى أنّ التاريخ يكتبه المنتصرون ويصنعه الأبطال، كما في الثورة الفرنسية، أو ثورة اليعاقبة، والتي يتصدّر مشهدها دائمًا نابليون بونابرت، فيجلّه مَن يُجلّه ويحطّ منه مَن شاء. ولعلاج تلك المعضلة أو الإشكالية، قدّم لنا فريدريك إنجلز أسلوبًا جديدًا في كتابه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، والذي سيتحول في ما بعد إلى مدرسة، تحمل اسم رفيق دربه: "الماركسية العلمية"، أو "الجدلية التاريخية" لدى كارل ماركس وفريدرك إنجلز، والتي تقوم في دراساتها للتاريخ وأحداثه على الظروف الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالحدث، بغض النظر عن الطوارئ الميتافيزيقية، والهواجس الفردية، والمدائح الشخصية التي يُزيّنها بعض المؤرخين ويُزخرفونها حول سيرة شخص ما، فالأحداث والتحوّلات وليدتا الظروف الراهنة، لا الشخوص الحاضرة.
وفي المقال نرى شبح ابن خلدون يُرافق الباشا الإنكليزي، فيصف الإمبراطوريات بدورة حياة الإنسان: ولادة، نشأة، شباب، شيّب، عجز، فموت. ولكن بمصطلحات أُخرى، على سبيل التنويع: الطليعة، الفتوحات، التجارة، الترف، الفكر، وأخيرًا الانحطاط.
الأحداث والتحوّلات في التاريخ وليدتا الظروف الراهنة، لا الشخوص الحاضرة
ولنفهم تلك المصطلحات الستة دعنا نضرب مثالًا، في العدد السادس من مجلة ناشيونال جيوغرافيك، سنة 1996م، إذ يتحدث الكاتب مايّك إدوارد، في مقال له بعنوان "جنكيز خان والمغول"، فيقول (ما معناه): المغول كباقي شعوب الأرض، كانوا مُشتتين مُتفرقين، يتوقون إلى الاستقرار والمجد الجمعي، فظهر من بين أظهرهم أسطورتهم الخالدة جنكيز خان، والذي لم يدع بؤرة من العالم القديم إلا واجتاحها، وامتدت مملكته من أوزبكستان إلى شمال الجزيرة الكورية.
وتلك المرحلة الأولية، بإمكاننا أن ننعتها بمرحلة "الطليعة" و"الفتوحات"، ثم تأتي مرحلة "التجارة"، والتي حدث فيها مزج بين العرق المغولي والحضارات الأُخرى، أو ما نسميه بتلاقح الحضارات. تتبعها مرحلة "الاستقرار والترف"، وهي مرحلة ينهض فيها العلم ويسود الاستقرار؛ فنجدها تمتد من هولاكو، الذي أسّس مرصدًا للفلك في إيران، وعيّن نصير الدين الطوسي مُشرفًا عليه، إلى تيمور لنك الذي عُرف عنه (بجانب وحشيته وهمجيته) إجلاله للعلماء، كما في قصة لقائه مع ابن خلدون، انتهاءً بمغول الهند المسلمين. وأخيرا تأتي المرحلة المهيضة، الانحطاط، والتي أصابت الإمبراطورية المغولية، المُسلمة، إن صح ذلك التعبير، بالشلل التام، إلى أن سقطت آخر معاقلها في الهند على أيدي الهندوس.
خِتامًا، يُصوّر جون جلوب العلاقة بين التاريخ وقراءة الإنسان له بأنها علاقة مُعقدة، إما أن تُبنى على عقلانية محضة، وذلك الأفضل، ليستنبط العِبر من السير، أو تُعكرها الرومانسية الثورية، والنوستالجية العاطفية؛ فيجنح القارئ بخياله وقلبه إلى زمان وأحداث لم يعشها أو يُشارك في صناعتها.. لكنه مُتلقٍ لها فحسب!