ماذا يعني أن تنفذ عملية إغارة ناجحة؟
ابتدعت كتائب القسام نمطاً جديداً من القتال في الأعوام الـ15 الأخيرة، وهو الإغارة على العدو من خلف الخطوط، كان أولها عملية أسر ناجحة سمتها (الوهم المتبدد) ونفذها 6 مقاتلين تمام الساعة 5:15 من صباح يوم الأحد الموافق 25 حزيران 2006م، وكانت العملية الثانية عبارة عن إغارة بالعربات على موقع كرم أبو سالم العسكري فجر يوم 17 نيسان 2008، والتي نفذها 4 مقاتلين ب4 آليات، استشهد ثلاثة منهم وانسحب المنفذ الرابع بنجاح.
استمرّ تطور عمليات الإغارة بمنحنى تصاعدي مطّرد مع استمرار جولات القتال، كان أكثرها نجاحاً العمليات التي نفذتها كتائب القسام في أيام القتال من معركة العصف المأكول في عام 2014، والتي كان من أبرزها عملية الإغارة على موقع 16 والإغارة على موقع أبو مطيبق وموقع صوفا وكذلك موقع زيكيم بضفادع بشرية.
في عام 2018 أعلنت حماس عن إطلاق مسيرات العودة الكبرى على حدود قطاع غزة، والتي هدفت إلى كسر الحصار عن غزة، وقد كانت مسيرات شعبية سلمية غير مسلحة، لكن الأنظار يبدو أنها كانت أبعد من ذلك، فالأرض المتاخمة للحدود تمت تسويتها لتسهيل مرور القوات في حال تم تنفيذ عملية هجوم في ما بعد، وكذلك حالة التماس المتكرر مع جيش العدو ساهمت في الدفع بالروح التعرضية للمقاتلين بشكل كبير، كما استفادت قوات الرصد والجمع الاستخباري من جمع قدر كبير من المعلومات عن قوات العدو المتمركزة والمواقع المحاذية.
اليوم استطاعت كتائب القسام نقل مستوى المواجهة والقتال إلى درجة مختلفة تماماً عن سنوات القتال السابقة بأسرها، فهي أول عملية إغارة كبيرة بهذا الحجم تنفذها أي قوة معادية للكيان الإسرائيلي منذ حرب أكتوبر 1973، استطاعت فيها مفاجأة الجيش الإسرائيلي في توقيت غاية في الحساسية بهجوم غير متوقع على أكثر من 50 موقعا عسكريا في منطقة غلاف غزة، ليعلن العدو ولأول مرة منذ أكثر من 5 عقود أن الكيان في حالة حرب.
ماذا جرى في عملية طوفان الأقصى؟
هاجمت قوة كبيرة من كتائب القسام يتجاوز قوامها لواء مقاتلين مواقع العدو المتاخمة لحدود قطاع غزة من عدة محاور في نفس اللحظة مصحوبة بإسناد ناري كثيف من سلاح المدفعية جرى فيها إطلاق 5000 قذيفة صاروخية في أقل من 20 دقيقة، تقدمت فيها القوات مقتحمة الحدود بعمق 30 كم، استطاعت فيها إيقاع مقتلة كبيرة في الجنود والمستوطنين يتجاوز عددهم لحد اللحظة 350 قتيلاً بحسب اعتراف العدو، كما استطاعت أسر عدد كبير من الجنود والضباط والمستوطنين واقتيادهم إلى مواقع آمنة ومحصنة داخل القطاع.
العملية استمرت أكثر من 24 ساعة وما زالت مستمرة، فبعض المواقع جرى اقتحامها والإجهاز على من فيها تبعها انسحاب للقوات، وبعض المواقع الأخرى جرى احتلالها والسيطرة عليها لحد اللحظة وأبرزها مستوطنة سيديروت، وهي أكبر مستوطنة في منطقة الغلاف، حيث تبعد عن حدود القطاع حوالي 13 كم، ويتجاوز عدد سكانها 30 ألف مستوطن، ويتحدث العدو عن استمرار الاشتباك في مناطق متفرقة من المستوطنة دون القدرة على استعادة السيطرة عليها.
اليوم استطاعت كتائب القسام نقل مستوى المواجهة والقتال إلى درجة مختلفة تماماً عن سنوات القتال السابقة بأسرها، فهي أول عملية إغارة كبيرة بهذا الحجم تنفذها أي قوة معادية للكيان الإسرائيلي
ماذا يعني أن تنجح عملية عسكرية بهذا الحجم؟
بداية يجب أن نفهم أن العدو الإسرائيلي يمتلك أقوى منظومة استخبارية في الشرق الأوسط، فجهاز الموساد الذي يعمل خارج حدود فلسطين يشكل هاجساً لكل قوة معادية للكيان، وجهاز الشاباك وأمان يحكمان قبضتهما على كل نفس يتنفسه الفلسطينيون في الضفة وغزة، ومنظومة السايبر والذكاء الصناعي والطيران المسير الذي لا يكاد يفارق أجواء القطاع، كلّ ذلك يشكل تحدياً كبيراً أمام قيادة عمليات القسام وقدرتها على تنفيذ تحضيرات العملية بهذه الدقة.
لكن المفاجأة كانت بقدرة المقاومة على تجاوز كل ذلك، وتنفيذ الهجوم الذي لم يكن يخطر على ذي بال، وهذا إن دل فإنما يدل على:
- القدرة العالية على ضبط تدفق المعلومات من القيادة إلى كافة مستويات المقاتلين وبدون أن ترشح قطرة معلومات واحدة من قنوات الاتصال.
- التأمين العالي الشدة لمنظومة الاتصالات التي لطالما حاول العدو جاهداً اختراقها بلا جدوى.
- براعة مناورة نقل القوات التي تمت في أجواء عالية في السرية بداية من الحشد إلى الاستعداد إلى الهجوم.
- سلامة الصف الداخلي للمقاومة، والذي لم تفلح امبراطورية السايبر والأمن في تجنيد أيّ من أفراده أو مقاتليه.
- احترافية خطة العمليات التي جرى إعدادها بدقة ولسنوات طويلة، بدءا من رصد مواقع الاستهداف إلى تحضير مسرح العمليات وليس انتهاء بتجهيز معابر وثغرات الوصول.
- التدريب العالي الذي خضع له مقاتلو نخبة القسام، والروح التعرّضية والمعنويات العالية التي يمتلكونها، فكيف لجندي لا يملك سوى قطعة كلاشنكوف يعود تاريخ تصنيعها إلى أكثر من نصف قرن إلى الوراء أن يواجه جندياً مدرعاً بأفضل درع في العالم، ومسلحاً بسلاح التافور، الذي يعتبر من أفضل الأسلحة التكتيكية، ومحصناً بأعتى مدرعة عرفها التاريخ (ميركافا 4) المحصنة بمعطف الريح ومنظومة تروفي المضادة للدروع، والمختبئة خلف عشرات الكاميرات وأجهزة الرصد والتتبع والأسلحة الرشاشة؟!
هذا ما يعنيه تنفيذ عملية بهذا الحجم، هذا ما يعنيه أن تراكم القوة سنوات تلو السنوات، وتعض على جراحك لئلا تستنزف قوتك في معارك أصغر من هذا الحلم الكبير.