ماتت قبله... وما زالت تنتظره
الموت أيضا مختلف.
في هذه المقبرة البلجيكية يُدفن الزوجان معا في قبر واحد. يموت أحدهما لينتظر الآخر. قرأت على قبر: اسم المتوفي فلان وأمامه تاريخ ولادته وتاريخ موته وتحتها كتب: فلانة، تاريخ ميلادها، ثم تاريخ موتها.
على قبر آخر قرأت: فلانة.. تاريخ ميلادها وتاريخ وفاتها وتحتها كتب: فلان.. تاريخ ميلاده وثلاث نقاط مكانَ تاريخ وفاته، ما يعني أنه ما يزال حيا! إنه فوق الأرض وليس تحتها، بينما على القبر مكتوب اسمه تحت اسم زوجته المتوفية. الاسم وتاريخ الولادة فقط، بينما تاريخ الوفاة مجهول. حين سيموت سينقلونه إلى جوار زوجته، يفتحون القبر، يمددونه إلى جانبها، ثمّ يغلقون القبر، يمسحون النقاط الثلاث ويعوّضونها بتاريخ وفاته. عاشا معا على الأرض، وأيضا سيعيشان معا تحتها. ربما أيضا أمام الله سيقفان معا متماسكين باليدين، رافضين أن يفصلا. سيكون من المجحف إرسال أحدهما إلى الجنة بينما الآخر إلى النار، إما معا إلى النعيم وإما معا إلى الجحيم.
ماتت قبله سوى أنها ما زالت تنتظره. إنه حي ما يزال، ينام ويستيقظ كالعادة. يعد القهوة كلّ صباح، يتغدّى وحده قبالة المرآة الكبيرة ويتعشى صامتاً. صبيحة الأحد يرتدي ثيابا أنيقة، يتملّى ملياً صورة زواجهما على مكتبه، يقصد الكنيسة ثم المقبرة. وفي يده باقة توليب هولندية صغيرة. يزورها ويحدثها عن كلّ ما حدث له خلال الأسبوع. أحياناً يحكي قصصاً ومواقف مضحكة، وأحيانا يبكي. ينهي اللقاء بالقول: لقد اشتقت إليك، اعتني بحالك، قريبا نلتقي.
في المساء، يفتح قنينة نبيذ أبيض، يشرب ويغني. الذين يكتبون أسماءهم أو أسماءهن تحت أسماء زوجاتهم أو أزواجهن على القبور يقصدون بذلك أنه لم يكن زواجا أو ارتباطا عاديا، بل هو زواج أبدي لا يلغيه الموت ولا يفسخه، إنه ارتباط حاسم للغاية..
أتخيّل أنه أفرط في الشرب يوماً ما، فقد السيطرة على نفسه، في الصباح، وجد نفسه على سرير غريب عارياً رفقة امرأة أخرى عارية. يقصد الدوش، يفطر صامتا، يرتدي ثيابه ويرحل مطأطئا.
الذين يكتبون أسماءهم أو أسماءهن تحت أسماء زوجاتهم أو أزواجهن على القبور، يقصدون بذلك أنه لم يكن زواجا أو ارتباطا عاديا، بل هو زواج أبدي لا يلغيه الموت ولا يفسخه
في الغد، يزور المقبرة، وفي يده باقة كبيرة. يضعها فوق القبر ويعتذر: أعرف أنك تعرفين ما حصل، أنت ميتة، وبالتالي يمكنك رؤية كلّ شيء، ليس هناك ما أخفيه، أردت أن أقول إني أحبّك وفقط، سامحيني عمّا حدث أمس، لم أقصد أن.. حدث ذلك وكفى... أنت ميتة، بالتالي تستطيعين أن تعرفي أني لا أكذب.. سأحاول ألا يتكرّر الأمر... لقد اشتقت إليك فعلا. لكن: لماذا ذهبت هكذا باكرا وتركتني وحيدا؟ حسنا القطة أيضا بخير، أظنها اشتاقت إليك هي الأخرى، أفكر في دفنها معنا! فكرة جيدة أليس كذلك؟ يبتسم... حسنا، إن متّ قبلها فسيتكفل الأصدقاء بذلك، ما رأيك؟ لماذا لا تجيبين؟
أتذكر أيضا مقبرة الشهداء المقابلة للمحيط بمدينتي الرباط.. الأرملة العجوز المتعبة بثياب الحداد البيضاء، تزور قبر زوجها مساء. مات زوجها وما تزال هي حية. إلا أنها تبدو بذلك البياض والشحوب والشفافية كما لو أنها من عالم البرزخ. تزيل النباتات الضارة عن جنبات القبر، تمسحه بيدها ساهمة ومخطوفة عن عالمنا كما لو أنها تمسح جسد زوجها. يصبح لنظراتها ذلك العمق الميتافيزيقي الذي تعجز اللغة، كما الصمت عن وصفه. تملأ الآنية الفخارية بالماء للعصافير، تقرأ المعوذتين، ثمّ تحدثه بصوت مرتفع، ثابت في الزمن وعميق كصوت الأحلام: لقد تعبت يا مبارك... لقد تعبت... تركت كلّ هذا الحمل على كتفي وذهبت؟؟ فليسامحك الله وليرحمك وليغفر لك... لقد تعبت حقا يا مبارك. أنت تعرف كلّ شيء، كيف سأحمل الآن كلّ هذه الأثقال بمفردي؟ لقد كسرني غيابك يا مبارك... تخفي وجهها بمنديل رأسها وتبكي بحرقة، تبكي حتى تهدأ وتستريح وتستكين ثم تعود إلى بيتها مشياً، صامتة.. وفي يدها باقة من نباتات المقبرة العطرة، ريحان الموتى الحزين، تشمّها وتتنهد..
في البيت، تضعها في كأس مليئة بالماء، تضع الكأس على الكومودينو الصغير قرب وسادتها، ثمّ تطفئ الشمعة بتنهيدة وتنام. وفي أحلامها، ترى مبارك ما يزال حيّا... إنه هنا أمامها بجلبابه الأبيض الجديد وطربوشه يفرغ لها شايا صنعته بيديها، شاي منكّه بالريحان، ترتشف منه وتشمّه بعمق..