لم أكن أمّا صالحة
أُفرغ لها الحليب في صحنٍ صغيرٍ وأتأمّلها وهي تلعقه كأنّها ترضعه دون أن يكون للصحن حلمة أو فراء. بمجرّد ما أفتح الباب تأتي راكضة إليّ، رافعةً ذيلها كلاقط سيّارةِ السيرك، مرحبةً بي ومتسائلةً عن الطعام. أُطعمها بيديّ جبنًا وسمكًا مطحونًا. لم يكن طعامها يُكلف كثيرًا فقد كانت صغيرةً جدًّا، لكنّها رغم ذلك لم تكن تشبع، فلو جلستُ لأُطعمها طيلة النهار لن تشبع، ولن تتعب قبل أن تتعب أنت.
تنتفخ بطنها لتصيرَ بحجم وشكل كرة المضرب، صلبةً ومُضحكةً أكثر. مع الوقت بدأتُ أشعر بأنّها قطتي، وأنّي مسؤول عنها بشكلٍ كامل، وأنّها أصبحت بالنسبة إليّ بمثابة شخص قريب جدًّا يصعب فراقه أو نسيان وجوده. لقد كانت قطّةً صغيرةً جدًّا بالفعل، لكنّها حيّة، تتحرّك، تلعب، تتثاءب، تأكل، تحزن، تفرح، تخاف، تحبّ، وتألف.
لم يكن سلوكها يختلف كثيرًا عن سلوك البشر، سوى أنّها كانت بلا مكر، وبلا ضغينة، وبلا انتقام. واضحةً جدًّا. حين تريدُ طعامًا تطلبه مباشرة، وحين لا تحبّ أن تمسّد فراءها تقفز بعيدًا عنك، زاهدةً فيك. إن ركلتها، تهربُ لتختبئ في مكانٍ آمن، لكن بمجرّد ما تُبدي لها نوايا حسنة، تعود لتطوفَ حولك وتموء باستكانةٍ وتأكل من يدك، ناسيًّة نسيانًا أبديًّا إساءتك لها. كانت متحفزة جدًّا ومفعمةً بالحيويّة واللعب والحياة، مستعدّة دائمًا للقفز والتشقلب والتهريج، ومستعدّة دائمًا للعناق والمداعبات بعاطفةٍ فائضة. كان عالمها صغيرًا جدًّا لا يتجاوز ما تراه عيناها الخضراوان الصافيتان، وذاكرتها تُمسح مباشرة بعد ثانية واحدة، فلا تتذكر دائمًا سوى اللحظة التي تعيشها. أحببتُ عالمها الصغير كثيرًا، ووجدت عالمي المتاهي مأساويًّا، مقارنةً بعالمها. كنت مدمنًا في تلك الأيّام على قراءةِ الفلسفة التي خرّبت دماغي حينها، وأبعدتني كثيرًا عن محيطي الذي أعيش فيه. أقرأ ساعات طويلة، خائضًا في عوالم تجريديّةٍ غير مرئيّة، مأخوذًا بقدرةِ العقل الإنساني على إنتاج كلّ تلك الأفكار الكثيرة المتضاربة. كنت أحبّ كثيرًا كتب الفلسفة في صفٍّ طويل فوق مكتبي، بعناوين بارزة لي دائمًا، وبأسماء الفلاسفة الرهيبة. لم أكن أفهم كلّ ما أقرأ، وكان ذلك بمثابة متعة زائدة وإحساس بالرضا والغرور، أن لا أفهم ما أقرأ وأن أقرأ ما لا أفهم. كنتُ أقرأ كتابًا عن تاريخ وفلسفة العلوم لتوماس كون بغلاف مقلوع، عنوانه "بنيّة الثورات العلميّة". أتذكر أنّ الفصل كان شتاءً. كنت أقرأ باهتمامٍ شديدٍ، معجبًا برنّة المصطلحات المعدنيّة الجافة. لم يكن عندي حاسوب ولا إنترنت، ولا هاتف، ولم أكن أهتم لأمرِ التلفاز كثيرًا.
لم أكن أفهم كلّ ما أقرأ، وكان ذلك بمثابة متعة زائدة وإحساس بالرضا والغرور، أن لا أفهم ما أقرأ، وأن أقرأ ما لا أفهم
كانت الأيّام أكثر هدوءًا وشاعريةً وبعدًا عن الحقيقة، خصوصًا في الشتاء القارس والمطير، وكانت القطّة الصغيرة تنام قربي على السرير، مندهشةً بضوءِ الشمعة كلّما فتحت عينيها، بينما كنت أقرأ، وحين أتعب من القراءة أكلّمها، ألاعبها، أدغدغها، وأمسّد فروها الناعم بسعادةٍ ودفء وفرحٍ كبير، فلم أكن أحسّ بتاتًا أنّي وحيد في تلك الليالي الطويلة. كان يدهشني أنّها لن تحتاج أبدًا إلى صفٍّ مُرعبٍ من كتبِ الفلسفة لتفهمَ العالم، ولم تكن مطالبةً بالذهاب غدًا صباحًا إلى أيِّ عمل، ولن يسأل عنها أحد أبدًا بطرق الباب من أجل سؤالها عن شيءٍ أو طلب شيء منها، أو معاتبتها على شيءٍ، أو متابعتها بتهمةٍ ما. كلُّ ما كانت تفعله هو التثاؤب والنوم واللعب بعد الاستيقاظ مباشرةً والمطالبة بشكلٍ غريب وغير مبرّر ولجوج بالطعام. كانت قطّة كاملة وراجحة العقل، دون قراءة ولا كتابة، ودون أيّ معرفةٍ بكرويّة الأرض، أو الجغرافيا والتاريخ. كانت مكتفيةً بعالمها الصغير، غير راغبة في أيّ إزعاجٍ معرفيٍّ أو فكريٍّ. كانت حرّة تمامًا ومنفلتة تمامًا بوعيها عن أيّ شقاء.
لم أكن حينها قادرًا على أن أفهم أنّ توماس كون لن يستطيع أبدًا أن يمنحني وعي قطّة، بل كلّ ما كان قادرًا عليه، هو وباقي الفلاسفة والكتب ذات الأغلفة الممزّقة، هو تخريب عقلي..
لم يكن سلوكها يختلف كثيرًا عن سلوك البشر، سوى أنّها كانت بلا مكر، وبلا ضغينة، وبلا انتقام
أتذكّر جيّدًا تلك العلاقة العاطفيّة الاستثنائيّة التي ربطتني بتلك القطّة الصغيرة، والسعادة الهائلة التي منحها لي وجودها في البيت طيلة ثلاثة أشهر تقريبًا. كانت تتسلّق السرير بحذر، لتنام قرب قدمي، ثم ما تلبث أن تبدأ بالتسلّق بحذرٍ أكبر كي تصل حتى رأسي. كنت أحاول إبقاءها عند قدميّ، متحاشيًا أن أدوسها أثناء النوم، لكنّها تصرّ على الصعود، وينتهي الأمر أحيانًا، بأن أطردها بأقلّ ما يمكن من اللطف. تبتعد غاضبةً، متمايلةً كطفلةٍ في مشيتها لتنام بعيدًا، وهي تطلّ عليّ بزعلٍ من هناك. أُواصل نومي ناسيًا أمرها وأمر مشاكساتها. بمجرّد ما أستيقظ تعرف أنّه وقت فطورها، تهرع إليّ وقد فتحت عينيها للتو، متمايلةً أكثر كسكرانة، مطالبةً بإلحاح بفطورها قبل فطوري، وإلّا فلن أفطر بسلام. وأحيانًا أكون قد استيقظتُ فقط لأبول فيخيب ظنّها. كانت أكثر من قطّة على ما أعتقد، ذكيّة جدًّا، وحسّاسة، ومُتأفّفة، وذات مزاجٍ وشخصيّة مختلفة ومستقلة عن باقي القطط، وتحبّ الموسيقى كثيرًا، خصوصًا السيمفونيات، تهدأ أكثر وتنصت للنوطات بدقة دون مواء أو ضجيج. كانت أيضًا تحبّ نبتة حبق في أصيص، تذهب قربها وتنام. كنت أحيانًا أقرأ عليها بعض أشعاري، وبعض الأشعار الأخرى من دواوين أخرى، فقد كانت تلك عادتي أن أقرأ الشعرَ شبه مرتّل بصوتٍ مرتفع، كانت تنصت وتلعق قائمتيها وفراءها كاملًا دون أن تبدي اهتمامًا كبيرًا بالشعر.
كان اسمها ميشي، وقد فقدتها فجأة بشكل مأساوي. حدث ذلك قبل خمس عشرة سنة تقريبًا، سوى أنّي ما زلت أتذكرها باستمرار كلّما رأيت قطّة صغيرة أو طفلًا، وأحسّها كما أحسّ شخصًا غائبًا، وأحتفظ بصورتها في عقلي كما قد تحتفظ عائلة بصورةِ ميتٍ عزيزٍ في إطارِ صورةٍ في أجمل زاوية من زوايا البيت.
مات أشخاص كثيرون في هذه السنوات، بعضهم أحزنني موتهم قليلًا أو كثيرًا، وبعضهم لم يعن لي موتهم أيّ شيء، أمّا موت ميشي فما زال يعني لي الكثير، لقد جلبها لي صديق من تحت صندوق تنام داخله أمها، جلبها لي وهي رضيعة، ولم أكن أمّا صالحة كفاية لها..